المهرجان الرمادي!!

TT

المهرجانات لها أيضا ألوان بعضها تخرج منه وأنت مشحون بفيض من المشاعر المتباينة أشبه بقوس قزح، وبعضها أبيض، وآخر أسود، أما مهرجان القاهرة الذي انتهت فعالياته قبل أيام ومصر تتمزق فلقد كان مهرجانا رماديا.

أغلب المسؤولين عن المهرجان كانوا يرتدون زي الثوار لزوم الموضة، رغم أنهم يقفون على الجانب الآخر منها، ولكنهم مضطرون إلى إعلان ثوريتهم حتى لا ينعتهم أحد بـ«الفلول».

تولت إقامة المهرجان وزارة الثقافة المصرية، الوزير يتوافق مع الحكومة الإخوانية في كل قراراتها، مما أغضب عددا من الفنانين، وكان أنسي أبو سيف مهندس الديكور هو أول المعتذرين عن حضور التكريم، وبعده الشاعر والكاتب مدحت العدل عضو لجنة تحكيم الأفلام العربية. كان من حقهم على المهرجان أن يذكر أسباب اعتذارهم أمام الرأي العام في الحفل الختامي، ولكن الإدارة لجأت إلى الحل الرمادي وألغت كل التكريمات ليبدو الأمر وكأنه قرار الوزير وليس احتجاجا على وجود الوزير. ولم يذكر شيئا عن الأسباب الحقيقية، وهي امتناع كل من أنسي ومدحت عن مصافحة وزير الثقافة لأنه يقف ضد رغبة جموع الفنانين في رفضهم للإعلان الدستوري ومسودة الدستور، الوزير أصدر أوامره بطبع المسودة على نفقة وزارة الثقافة لأنه يعلم أن عليه تنفيذ سياسة الحكومة الإخوانية وإلا!!

كان الوزير تحسبا لهجوم جارف سيتعرض له من قبل المشاركين في الحفل الختامي قرر أن يؤثر الانسحاب ولم يذكر اسمه سوى مرة واحدة وعلى استحياء، في حين أنه في حفل الافتتاح كان هو العريس ولم يترك أبدا الميكروفون من يديه إلا بضع دقائق حتى يلتقط أنفاسه، ليعود بعدها مجددا إلى الميكروفون، بينما كان وزير الثقافة قبل الثورة فاروق حسني لا يذكر أكثر من هذه الكلمات: «باسم الله نفتتح المهرجان».

المهرجان خيم على قراراته الضباب، فهو مثلا في أزمة اشتراك الفيلم السوري «العاشق» الذي تم استبعاده في اللحظات الأخيرة أبقى على توجيه الشكر عامدا متعمدا في الكتالوغ الرسمي لكل من رئيس مؤسسة السينما السورية وأمين المؤسسة، ولم يكتفِ بهذا القدر، بل في النشرة الرسمية للمهرجان حرص على طبع مقالة تشيد بالفيلم. في نفس الوقت فيلم سوري آخر يؤيد الثورة تم استبعاده للمخرجة هالة العبد الله «وكأننا نقبض على الكوبرا»، والمقصود بثعبان الكوبرا في الفيلم بشار الأسد رغم أنه قد سبق مثلا لمهرجان أبوظبي قبل شهر أن ضم هذا الفيلم ضمن فعالياته.

مهرجان القاهرة الرمادي حريص على أن يؤكد أنه يقف على الحياد وكأن شرط عرض فيلم «الكوبرا» الذي يهاجم بشار أن يعرض على المقابل فيلم «العاشق» الذي أنتجته مؤسسة السينما المدافعة دوما عن بشار، ولهذا استبعد الفيلمين وكأنه يبرئ ساحته من إعلان انحيازه لثورة سوريا ضد الطاغية.

في كواليس المهرجان كانت الحجة المعلنة هي أن السياسة والثقافة لا تلتقيان، وأنه مهرجان ثقافي بالدرجة الأولى، ودورهم هو أن يحافظوا على شرعية المهرجان التي تقتضي الوقوف سياسيا على الحياد، رغم أن كل مهرجانات الدنيا أعلنت دعمها لثورات الربيع. السياسة كانت تلقي بظلالها على أحداث المهرجان رغما عنهم، فلم يمنع غياب الوزير عن حفل الختام أن تنطلق هتافات مدوية في دار الأوبرا تتعانق مع هتافات الشارع مرددة «يسقط حكم المرشد». أرادوه مهرجانا أبيض فاترا لا طعم ولا لون ولا رائحة ولا يشوبه أي ملمح لما يجري في ربوع مصر، ولكن فرضت اللمحات الثورية مذاقها ليصبح مهرجانا ملتبسا، لا هو ثوري ولا هو إخواني، ولكنه رمادي.