نظرة في الحجارة

TT

«بيت السلام»، مؤسسة الحوار الإنساني، في لندن من المراكز الثقافية العربية الجديرة بالزيارة والتواصل معها.. فحوارها حوار متنوع.. حوار بين اليمين واليسار.. حوار بين الغيبيات والواقعيات.. حوار بين العلم والروح.. وبين الأدب والتكنولوجيا. كان من آخر ما استمتعت به واغتنيت بمعرفته، محاضرة الدكتور ليث رءوف عن تطور مدينة بغداد منذ أيام الوالي مدحت باشا في القرن التاسع عشر.

نحن معتادون على الحديث عن التاريخ السياسي، والتاريخ الاجتماعي، والتاريخ الأدبي، وتطور الشعر والقصة والمسرح.. ونحو ذلك. ليث رءوف شاء أن يحدثنا عن دنيا الحجارة.. كيف تطورت البيوت والأزقة وتخطيط المدينة ومواد البناء. أنا كاتب سياسي واجتماعي، ولكنني وجدت مادة غنية جديرة بالانتباه في سرده المعماري. المعتاد أن ننظر إلى ماضينا في إطار البنية الطبقية والإقطاعية، بيد أن الدكتور ليث كشف لنا أننا الآن أكثر طبقية وأصبحنا أكثر إقطاعية بعد حصولنا على الاستقلال.. ففي العهد العثماني، كانت المدينة مقسمة إلى محلات، ولكنه كان تقسيما حِرفيا وطائفيا وليس طبقيا؛ فهناك محلة أكثرها من المسيحيين «عقد النصارى»، وأخرى لليهود «عقد اليهود».. تخصصت بعض المحلات بحرفة سكانها، مثل «محلة الدهانة» و«محلة الصابونجية» و«سوق الغزل» و«سوق الذهب». محلات أخرى عاشت على القوميات، مثل «تبة الكورد» و«دربونة العجم» و«قهاوي عقيل» و«فضوة عرب». من الجميل أن نلاحظ أنه لم تكن هناك محلات خاصة بالسنة أو الشيعة وتحمل هذه الصفة.. كانوا يعيشون معا بسلام، ولم تكن هناك أيضا محلات خاصة بالأغنياء أو الفقراء.. ففي «محلة باب الشيخ» مثلا تجد بيوت الأسرة الكيلانية الغنية وإلى جانبها تجد بيوت الصنايعية والجنود وسائر الضعفاء، وكلهم يعرف بعضهم بعضا ويسلكون الأزقة والأسواق نفسها.

بيد أن الاستقلال الوطني وما تلاه من تدفق عوائد النفط وتوسع التجارة والأعمال، قضى على هذه التركيبة.. ترك الأغنياء محلاتهم القديمة وانتقلوا لأحياء جديدة من القصور والدور المشيدة على الطراز الأوروبي، وأصبح لهم كيانهم الخاص بهم من نواد ومجالس راقية. ومن ناحية أخرى، انفكت العلاقة التقليدية بين الفلاحين وشيخهم؛ فشيوخ العشائر أيضا هجروا الريف والأهوار وبنوا لهم قصورهم الباذخة في العاصمة وتحولوا إلى مجتمع الباشوات وأصحاب الفخامة والسعادة. بانفكاك علاقتهم التقليدية مع فلاحيهم، بادر الفلاحون أيضا إلى الهجرة فأقاموا لأنفسهم أحياءهم الخاصة في أطراف المدينة من الأكواخ الطينية البدائية. هكذا أصبحت الدولة الوطنية أكثر طبقية من المجتمع القديم.

حاول زعماء الثورة تقويض هذا الكيان بمشاريعهم الاجتماعية؛ بما فيها المشاريع السكنية، فبنوا بيوتا للعمال والفقراء، كما في «مدينة الثورة» التي شيدها عبد الكريم قاسم. ضمت المدينة الآن هذه الأحياء العمالية الجديدة بمجتمعها الخاص.. أصبحت المدينة لوحة من الموزاييك الملون، ومنها هذا الحي العجيب الذي شيد مؤخرا لأرامل الحرب، وهناك زقاق آخر لشهداء الحرب!