أيام مضت بمرها وحلوها

TT

عندما كنت أدرس في (فلورنسا) بإيطاليا، حصل فيضان رهيب غير مسبوق لنهر (أرنو)، فأغرق البلاد والعباد، وتناقلت وكالات الأنباء ذلك بالكتابة والصوت والصورة.

وأذكر يومها أنني كنت أسكن في شقة بالدور الثاني بعمارة قديمة لا يقل عمرها عن 700 سنة، في شارع جانبي متفرع من ميدان (بلاتسودي فيكيو)، وبالصدفة، وفي ذلك اليوم المشؤوم، كان قد زارني في شقتي الصغيرة تلك، التي هي عبارة عن غرفة نوم واحدة ومطبخ وصالون كبير (تطارد به الخيل).

أقول: إنه في ذلك اليوم زارتني مجموعة من الزملاء والأصدقاء، وهم عبارة عن أربعة من الذكور، مع ثلاث من الإناث، وكنا وقتها لا همّ لنا إلا أن نتداول ما فيه همّ الدرس والمشاريع التي كلفونا (بروفسوراتنا) بعملها، لكي نقدمها لهم في نهاية الأسبوع كالعادة المتبعة.

وبينما كنا منهمكين بالاجتهاد والعمل، وبحكم أنني صاحب المكان، فكنت من الحين والآخر أراقب القدر التي يغلي بها (الأسبكتي)، وأدور على الجميع بأكواب القهوة وكؤوس العصير، وكأنني (حاتم الطائي) لابسا (كسكتة).

وفجأة إذا بنا نسمع صراخا وهديرا، وما إن فتحت النافذة حتى فجعت بما أرى، إذ إن الشارع بكامله تحول إلى نهر صاخب، وإذا بالمياه تجتاح العمائر كلها، بما فيها عمارتي التي أسكن فيها، وإذا بالفيضان يغمر كامل الطابق الأسفل من العمارة، وإذا بالسكان الذين كانوا هناك يصعدون كالجرذان ويضربون بأيديهم على باب شقتي الخارجي طالبين الالتجاء والدخول.

فتحت لهم الباب، ودخل رجل مع زوجته وثلاث من البنيات الصغيرات (كزغب القطيور)، اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين الثانية عشرة والسابعة عشرة، فقلت بيني وبين نفسي: اللهم زِد وبارك.

أصبحت شقتي في ذلك اليوم عبارة عن ملجأ، كنا ثمانية فأصبحنا ثلاث عشرة نسمة، ومن فين وفين يا مشعل حتى تحسبها؟!

دخل الليل علينا وما زال الفيضان يفتك بالمدينة وكأنه يقول: هل من مزيد؟!

لا أكذب عليكم أنني نسيت المصيبة الخارجية وأخذت أفكر بمصيبتي الداخلية؛ كيف أرعاهم، وكيف أعلفهم، وكيف أحافظ على راحتهم، وخصوصا أنه لا يوجد في شقتي غير حمام واحد يعرفني وأعرفه؟!

لا أريد أن أزيد عليكم بالكلام لكي لا أضجركم؛ تركت سريري للفتيات الثلاث، ودثرتهن بيدي بلحافي، أما البقية الباقية فقد انطرحوا على الكنب والأرض، ونمت أنا ليلتها واقفا مثلما ينام الحصان.

وفي الصباح الباكر، قررت أن أغامر وأنزل للشارع لكي أقيس مدى الفيضانات، غير أن إحدى الزميلات الله يذكرها بالخير صممت ومن خوفها على أن تنزل معي، وما إن خضت وسط المياه حتى غمرتني إلى وسط صدري، وكادت تجرفني معها، لولا أن أمسكت بيدي زميلتي التي كانت متشبثة بالباب، وأنقذتني وأنا بين الحياة والموت، وفي ذلك اليوم، وحسب الأخبار، غرق ما لا يقل عن 280 شخصا، لم أكن من ضمنهم بالطبع، وهكذا أنقذتني العناية الإلهية على يد امرأة، لهذا أنا شغوف ومدين للمرأة بحياتي.

وبعد أن هدأت الأمور في اليوم الثالث، ذهبت إلى التليفون العمومي، حيث لا جوالات في ذلك الزمن، واتصلت بوالدي رحمه الله أريد أن أطمئنه على سلامتي، وصُدمت عندما اكتشفت أنه لم يكن لديه أي علم بالفيضان نهائيا.

[email protected]