الهوية الوطنية وبناء الدولة

TT

إن بناء الدولة يجب أن يحتل الأولوية بعيدا عن الانتماء السياسي والحزبي أو الطائفي. هذه الحقيقة يجب أن يؤمن بها الجميع لأننا من دونها لن نتمكن من بناء الدولة المدنية الحديثة التي يحظى بها المواطن بكل حقوقه.

ومن خلال الحديث الأخير لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي نجد أنه أشار مرة أخرى إلى أمر كان ولا يزال يعاني منه وهو التوجهات الحزبية والطائفية والقومية للقوى السياسية وعدم التركيز على مقومات بناء الدولة المدنية الحضارية والتي لا بد أن تكون عبر الانتماء للهوية الوطنية أولا مع احترام الهويات الفرعية.

ولقد غابت مقومات الدولة المدنية لعقود طويلة بسبب تعاقب الأنظمة الديكتاتورية على حكم العراق، إلا أن العراق وبعد سقوط نظام البعث الفاشي في 2003 أراد أن ينطلق في مسيرة البناء تحت شعار بناء الدولة أولا، حيث كان من المفروض أن تتجه جميع الطاقات والإمكانات نحو بناء هذه الدولة وإعادة إعمار وبناء العراق، ولكن ما حصل لم يكن كذلك، حيث انطلقت العملية السياسية في العراق وفق مبدأ المحاصصة الطائفية بعيدا عن الهوية الوطنية العليا وتقاسمت الكتل والأحزاب جميع المناصب والوزارات وتراجعت مفاهيم المواطنة والوطنية والعدل والمساواة وأبعدت الكفاءات عن استحقاقاتها وتراجعت الخدمات ولم يحصل المواطن العراقي على التعويض المناسب بعد عقود طويلة من الظلم والحرمان عاشها في ظل النظام السابق.

وإن من أهم شروط بناء الدولة الالتزام بالدستور وتطبيقه على أرض الواقع وأن يحظى باحترام القوى السياسية جميعا من خلال الالتزام الكامل والدقيق بجميع مواده وفقراته والابتعاد عن الانتقائية في اختيار ما يناسب المصالح الشخصية والفئوية الضيقة.

إلا أننا من خلال متابعة الأحداث نجد أن الدستور العراقي لم يعد المرجعية العليا للقوى السياسية وللعملية الديمقراطية في البلاد، حيث أصبح الجميع يتاجر بشعارات احترام الدستور والرجوع إليه، بينما يقوم نفس الطرف بخروقات دستورية فادحة عندما يصطدم مع مصالحه ومصالح حزبه وفئته.

ومن هنا غابت القيمة الحقيقية للدستور وابتعدنا عن أهم الركائز التي من خلالها يتم بناء دول المؤسسات الدستورية والقانونية، الأمر الذي يجعلنا نطرح تساؤلات كثيرة أهمها كيف يمكن لنا أن نحل مشكلاتنا في ظل الابتعاد عن الدستور، لا سيما الأزمة الحالية بين الإقليم والحكومة الاتحادية، ففي ظل غياب الدولة الدستورية المدنية سيكون من الصعب إيجاد حلول للأزمات والمشكلات في هذه الدولة. فقضية تحركات الجيش العراقي والبيشمركة وقضية كركوك والمادة 140 وقضايا كثيرة أخرى لا يمكن حلها إلا بالعودة إلى الدستور الذي كتبه العراقيون واستفتي عليه الشعب العراقي.

القوى السياسية العراقية نجحت بامتياز في كتابة الدستور من خلال اللجنة التي ضمت جميع مكونات الشعب العراقي ونال ثقة الشعب وتأييده من خلال الاستفتاء عليه ودخوله حيز التنفيذ والتطبيق في محاولة لبناء دولة المؤسسات الدستورية والقانونية من أجل دولة مدنية حديثة الحكم فيها أولا وأخيرا للدستور وما جاء فيه من فقرات تضمن حقوق المواطن والمكونات التي تشكل بمجموعها الشعب العراقي.

إلا أننا ومن خلال متابعة الأزمة الأخيرة نجد أن بعض القوى السياسية تريد أن يبقى الدستور معطلا ولا تريد أن يكون هو الحكم، بل ما زالت تطالب بالاتفاقيات الجانبية التي تقودنا للمحاصصة الطائفية والسياسية والتي حكمت التجربة الديمقراطية منذ انطلاقها وكانت العائق الرئيسي في تأخر عجلة البناء والتقدم ووقفت حائلا في طريق وصول الخدمات الحقيقية للمواطن.

وفي الوقت الذي تدعي فيه القوى السياسية الحرص على حقوق الشعب العراقي نجد أنها تصر على خرق الدستور من خلال تمرير اتفاقات كثيرة شهدتها العملية السياسية يتم من خلالها تكييف الدستور مع رغبات السياسيين وكل ذلك تحقيقا لمصالحها الفئوية بعيدا عن مصالح الشعب العراقي. من أجل ذلك نريد أن نقول إنه على جميع الحريصين على التجربة الديمقراطية، لا سيما السيد رئيس الجمهورية والإعلام الحر ومنظمات المجتمع المدني، أن تتحرك بقوة وفاعلية وبعيدا عن المجاملات والانتماءات لإيقاف الخروقات الدستورية في الكثير من القضايا من أجل حماية الدستور العراقي.