إن كان على أوروبا أن تخشى شيئا.. فلتخش نفسها

TT

يدرك الملاحظون بعمق للمشهد السياسي الأوروبي، أن منطقة اليورو لا يمكن أن تتفكك، فالثمن الذي ستتكبده أي دولة تنوي الانسحاب من هذا الاتحاد الأوروبي سيكون بلا شك فادحا لدرجة يصعب احتمالها، وقرارا ذا تبعات وعوامل مختلفة. ولقد جاء إعلان ماريو دراغي رئيس البنك المركزي الأوروبي يوم السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي حين قال إن البنك المركزي الأوروبي سيشتري كل ما يمكنه من سندات الحكومات الأوروبية، بمثابة الجسر الذي يقود القارة العجوز نحو المستقبل.

وهناك حقيقة يجب على القادة الأوروبيين جميعا إدراكها، هي أنه لا مجال للتراجع الآن، فقد تم رفع جسر العودة من خلفهم، وعليهم اليوم أن يصبوا تركيزهم وجهودهم على التأهّب للمرحلة المقبلة. كما يتحتم عليهم أن يعوا تماما أن سبيل إنجاح المشروع الأوروبي، هو أمر مرهون فقط بتحقيق النجاح. وإلى جانب وجود «اليورو» العملة الموحدة المتداولة بين دول الاتحاد حاليا، فيجب على هؤلاء القادة العمل بجد لتأسيس أربعة اتحادات أخرى متصلة بالشؤون المالية تشمل؛ وحدة النظام المصرفي، ووحدة الشؤون المالية، ووحدة التنافسية وتقريب وجهات النظر، ووحدة أخيرة تجمع النوايا والأهداف نحو تحقيق الوحدة السياسية.

ولتحقيق استدامة عمل ونجاح هذه الوحدات أو الاتحادات، فمن الواجب على القارة بأكملها العمل بأسلوب جماعي لإعادة ضم ودمج الشباب في برامجها، والخروج بمثالية رمزية تستحق القتال من أجلها. ولعل البعض ينظر إلى تلك الاتحادات المطروحة، كقائمة طويلة من الأهداف الطموحة والصعبة المنال، ولكننا كلما تعمقنا وتفحصنا النظر في واقع الاتحاد الأوروبي الحالي، ترسخت وزادت قناعاتنا بحتمية تحقيق مثل تلك الأهداف.

ومنذ إعلان التكامل الأوروبي عندما قامت كل من بلجيكا، وفرنسا، وألمانيا الغربية، وإيطاليا، ولوكسمبورغ وهولندا بتوقيع معاهدة باريس في أبريل (نيسان) سنة 1951، انعكست تلك المبادرة الوحدوية بشكل ملحوظ على الأجيال اللاحقة. والآن هل يمكننا أن نتصور تاريخ أوروبا من دون تطوير مؤسساتي يقوم على أساس لمّ شمل الدول الأوروبية تحت مظلة القيم والمبادئ المشتركة؟ بالطبع ذلك أمر يصعب تصوّره.

لقد تمكنت العملة الأوروبية الموحدة «اليورو» من تحقيق مكاسب اقتصادية عظيمة خلال الفترة الماضية، فقد نجحت في تخفيف أخطار تحويل العملة، وخفض التضخم، وأسهمت في زيادة التعاملات التجارية بين دول منطقة اليورو، وإحكام ربط الأسواق المالية الأوروبية بعضها ببعض ودعم تكاملها. وبصورة شمولية، فقد ساهم وجود العملة الواحدة بتأسيس ثقافة نقدية ثابتة ومتينة في منطقة اليورو، وهي نقطة على درجة عالية من الأهمية عادة ما يتم إغفالها في النقاشات الدائرة هذه الأيام.

لقد أظهرت الأزمة المالية الأخيرة بعض الثغرات الفادحة في هيكلية منطقة اليورو، إذ تعاني أوروبا من فقدانها لسياسات مالية اقتصادية قوية وواضحة، كما أدى تشتت المنافسة بين اقتصاد الشمال والجنوب إلى تزايد خطر العجز الذي لم ينتبه إليه أحد، وخلّف غياب الوحدة المصرفية الكثير من الأخطار النظامية. وما يزيد من تفاقم الوضع، هو أن تعقيد النظام السياسي الأوروبي، وتزايد العجز الديمقراطي الذي تمثله هذه الأنظمة أمام شعوبها، أدى إلى تكوين «عجز إداري» أو قيادي وهو ما يمكن وصفه بالعجز في اتخاذ القرارات الحقيقية.

ويمكن القول إن الأمر الواضح للعيان الآن، هو أن على «اليورو» أن ينجو على الأقل بوضعه الحالي، ولكن ذلك لا ينفي بأي حال من الأحوال الضرورة الملحة لمعالجة عوامل الفشل التي تحيط بتلك العملة وأولها هو الاتحاد المصرفي، وهو مطلب أساسي لنجاح سياسة الاتحاد النقدي. ولكي يتوفر نظام مصرفي قوي فلا بد من توفير جميع السبل التي تكفل له النجاح، فلا بد من أن تحظى تلك المؤسسة بإشراف مشترك بين دول الاتحاد، وأن تتمتع بآلية تمويلية متجددة وضمان مشترك للودائع.

ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن أولى الخطوات التنفيذية لتحقيق ذلك الهدف، قد تم اتخاذها بالفعل يوم 12 سبتمبر (أيلول) الماضي وتحت إشراف فردي مقترح من قبل البنك المركزي الأوروبي. ومن المقدر للخطوتين الأخريين أن تلحقا بركب التنفيذ، ولكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار التخوف المتجذر في أوروبا بأن المفاوضات هي عملية معقدة تستغرق سنوات طويلة ليتم التوصل إلى قرارات مرضية لجميع الأطراف.

وفي الوقت الذي تطول فيه المحادثات بشأن الاتحاد المصرفي الأوروبي، فلا بد لهذه المحادثات أن تتطرق في نهاية المطاف إلى ما يقود إلى مناقشة اتحاد مالي واقتصادي شامل، عندما تنسجم جميع الآراء المختلفة وتبدأ بالتكامل، إذ إن فكرة تأسيس الاتحاد المصرفي من دون البدء باتحاد مالي واقتصادي لا تعني الكثير. كما لا بد من توافر ثلاثة أجزاء رئيسية لإنجاح أي اتحاد مالي في أوروبا هي، أولا توافر برنامج لإعادة التمويل المباشر، والذي يمكن توفيره في الحالة الأوروبية بواسطة آلية الضمان الأوروبي، وثانيا إيجاد نظام تأمين للودائع في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي للتخفيف من هروب السيولة من البنوك في البلدان الأضعف اقتصاديا وللتقليل من الأخطار الأخلاقية، وثالثا إيجاد شكل من أشكال تبادل الديّن.

وقبل أن يتراجع المعادون لفكرة الاتحاد الأوروبي مبدين امتعاضهم، فمن الأهمية بمكان ألا نقع ضحية التفكير المزدوج، حيث يجب عدم تفسير الأمر بحسب مقولة «كل شيء أو لا شيء». فما بين انعدام أي شكل من أشكال الاتحاد المالي والاقتصادي، وعدم وجود نظام مالي محكم ومتكامل كالنظام القائم في الولايات المتحدة أو النظام القائم على الطراز السويسري الكونفيدرالي، تتشكل بلا شك مع الوقت مراحل بينية يمكنها أن تساهم بشكل فاعل في خلق إحساس بالانسجام والتوافق بل والسيطرة المالية.

إن إصلاح الحوكمة المالية الأوروبية باتت بلا شك ضرورة مهمة، ولكنها لا تكفي وحدها كشرط لتحقيق النجاح للقارة الأوروبية، كما لا يمكنها أن تطغى على المشكلة الأساسية في الأزمة وهي الفجوة الكبيرة في التنافسية بين شمال أوروبا وجنوبها. وأنا على ثقة أن إصلاح النظام المصرفي في الاتحاد الأوروبي، واستعادة استقرار الاقتصاد الكلي الأوروبي سيساهم كثيرا في مساعدة الدول في جنوب القارة على زيادة إنتاجيتها، ولكن والأهم من ذلك، سيساعد تلك الدول أيضا على الالتزام بمشروع طويل الأمد لزيادة مرونة سوق العمالة فيها، وتشجيع المنافسة والتنافسية، والدخول في استثمارات أفضل وأكثر تؤدي إلى تعزيز النمو في مجالات مثل التعليم، والتكنولوجيا والإبداع.

ولا بد بالضرورة أن تؤدي جميع هذه الإصلاحات إلى تحفيز طاقات المبادرين من الذين بات يُطلق عليهم «الجيل الضائع»، إذ إن تزايد بطالة الشباب هي بلا شك مرض يستشري في قلب الاقتصاد الأوروبي، ليسرق مستقبلها ويبدد إمكانات النمو فيها لعقود مقبلة.

ويجب مع ذلك أن نحافظ على تفاؤلنا بأن الإصلاح مقبل لا محالة، وعلى الرغم من وتيرة التطبيق البطيئة، فقد صُممت استراتيجية «أوروبا 2020» لحث وتشجيع التنافسية في المنطقة. وأعتقد من وجهة نظري أن الطريق أصبح واضح المعالم الآن نحو المستقبل، وأن قادة أوروبا سيبدأون بالتطلع نحو الأمام بكل أمل وتفاؤل وليس إلى الوراء بتشاؤم، ويمكنني التأكيد كذلك أن أوروبا ستبهر أولئك المتشائمين مع إطلالة العام الجديد.

ودعوني أقول أخيرا إن ما سيعزز تفاؤل القارة الأوروبية، هو إدراك القادة مجتمعين أن أوروبا ككيان إما أن تنجح كوحدة واحدة أو تتشتت معا إلى أجزاء متفرقة، فليس هناك دولة واحدة في هذه القارة يمكنها القول جازمة بأنها محمية من تبعات وآلام الأزمة الاقتصادية. وبات من المهم في هذا التوقيت الحساس أن يمتلك النظام السياسي الأوروبي القدرة على استشراف المكاسب التي ستتحقق بخروج القارة من الألم الذي أنتجته الأزمة، والعمل على صياغة هذه المكاسب بطريقة تجمع شمل أوروبا وتوحدها لتحقيق مستقبل مشترك مشرق.

* المؤسس والرئيس التنفيذي لمنتدى الاقتصادي العالمي، له كتاب سينشر يوم 14 ديسمبر (كانون الأول) بعنوان «أوروبا: إشراقة جديدة»، ويتوفر مجانا على الموقع الإلكتروني http://www.weforum.org/re - emergence - europe