بكالوريوس سيزيفي في حكم الشعوب

TT

الحالة التي وصلتها مصر بفضل مكتب الإرشاد (العقل المدبر للإخوان وليس الرئيس المنتخب)، تذكرني بمسرحية أنصح القراء بمراجعتها كدراسة في السيكولوجية العامة للطبقة السياسية المصرية. سيكولوجية جيل أنجبته ديكتاتورية الدولة البوليسكرية (تعبير مبتكر لعسكرتارية تطورت إلى دولة بوليسة). دورة تطور الديكتاتورية كحياة الحشرات.. من دودة سيطرة الحزب الواحد (الاتحاد القومي فالاشتراكي) لشرنقة انتفخت بفضل انفتاح اقتصادي بلا إصلاح سياسي مع غياب القانون، لتخرج منها حشرة حزب الفساد الوطني لتضع بيضا فقس عنه جيل لم يختبر الديمقراطية وحرية الاختيار.

مسرحية «بكالوريوس في حكم الشعوب» كتبها في مطلع السبعينات المهندس الدرامي (الترجمة الأدق للكاتب المسرحي playwright، لأن wright من اسم الفعل لمهندس خلاق shipwright باني السفن وwheelwright صانع العجلة) علي سالم، فهو مؤرخ المسودة فتعليقاته ومسرحياته كمسودة أولية تؤرخ للأحداث المعاصرة مستغلا موهبته الدرامية في دراسته سلوك الإنسان ودوافعه.

تدور التمثيلية في بلد شرق أوسطي فيه كلية حربية، بينما الجيش بلا قادة مؤهلين، فكل دفعة خريجين لا تعود أبدا من الدراسة في الغرب حيث يفضل الضباط الشبان العيش في جهنم العدو على جنة الوطن.

الوطنية والحس بالحاجة للتغيير تلهب صدور طلاب السنة الأولى بعد سنوات التظاهر في المدرسة الثانوية؛ ويلاحظون أن الصف الثاني يدبر شيئا مع المخابرات السوفياتية؛ وطلاب السنة الثالثة يتآمرون مع السي آي إيه الأميركية، بينما جهز الإنجليز خطة للاستيلاء على الحكم مع طلاب السنة الرابعة.

بحماس الشباب النقي «ينشل» طلاب السنة الأولى «الأحرار» الانقلاب مستقلين عن القوى الكبرى ويعلنون الجمهورية.

بسخريته يقدم علي سالم نماذج (لا تزال حية بعد 40 سنة من كتابة المسرحية) محلية وعالمية، من أخطاء من يحكم بلا خبرة؛ وشر ما يضحكنا إهدارهم الموارد عندما يبيعهم تجار السلاح غواصات متطورة والبلاد لا تطل على بحار، أو تكنولوجيا استغلال إنتاج الغابات في بلدهم الصحراوي ويستثمرون في أجهزة الأمن لا في البنية التحتية، ويزجون بأصحاب المؤهلات وراء القضبان.

تصادفهم عقبة رفض اعتراف الأمم المتحدة بحكومات الانقلاب إلا شريطة تأهيل الحكام الجدد في جنيف لاجتياز امتحان بكالوريوس حكم الشعوب.

يذهب رئيس الانقلاب (مجلس قيادة الثورة) إلى المعهد حيث لا تنتهي الدراسة أبدا لاستمرار تغيير التلاميذ (شخصيات عكست واقع السبعينات كعيدي أمين، والقذافي، وبينوشيه) عندما يحدث انقلاب على الانقلاب الأصلي ويأتي رئيس جديد يحل محل الزعيم في الفصل، وبعد بضعة أسابيع يحل محله ثالث فرابع... وهكذا دواليك.

المسرحية كتبت عقدين بعد اغتصاب العسكر للسلطة، وكان في المنطقة سبعة نظم انقلاب عسكري لم تنجح أي منها في تحسين مستوى الفرد أو إسعاده أو منحه حقوقا أكثر مما اكتسبها في عهد الملكيات التي قلبتها أو «الاستعمار» الذي رحل.

كان الجيل السياسي في مصر يحمل ذكريات الحكم النيابي الديمقراطي في ظل دستور 1923، ولذا أضحكتهم المسرحية لواقعيتها في كشف جهل حكومة العسكر وفساد الاتحاد الاشتراكي وشعارات إهدار الثروة القومية ودماء الأبناء في الحروب الآيديولوجية.

نسيت سؤال الصديق علي سالم عما إذا كان تنبأ قبل 40 عاما بانتهاء الكفاح إلى خيبة الأمل في عبارة رددها زعيم الأمة سعد زغلول باشا قبلها بأربعين عاما أخرى «مفيش فايدة»؟

أم كان يتنبأ بكفاح «سيزيفي» لمجرد الكفاح بلا أمل في بقاء الصخرة أعلى الجبل لا تدحرجها؟ وتصبح الثورة مستمرة لمجرد الاستمرار لا للوصول إلى هدف؟

فالدراسة مستمرة والأمل في حصول حضرات الضباط وقادة الثورة على بكالوريس لحكم الشعب؟ مشوار بالروح والدم دون إدراك أن الهدف العظيم هو جزرة يدليها من يمتطي ظهر الثورة؟

فالرئيس، سواء كان روبوت يمسك مكتب الإرشاد كنتروله أو كان عقله أسير مخدر ما يعتقده إيمانا مطلقا (حالة سيكولوجية كالكهنة الذين لا يشعرون بألسنة اللهب عندما يحرقون أنفسهم احتجاجا والآيديولوجية أقوى من المورفين)، أو سواء انتبه عقله الحاصل على الدكتوراه من أميركا، فلا بد وأنه مدرك لخرقه القانون بالتراجع عن قسم أداه أمام المحكمة الدستورية.

من الصعب تصور أنه ومكتب الإرشاد يصدقون أن دفع البلطجية وميليشيا التنظيم السري لمنع قضاة المحكمة الدستورية من نظر أخطر قضية تواجه الأمة منذ كارثة 1952 هو الحل النهائي لتمرير دستور لا يمكن وصفه بالقانوني.

هل ينتهجون سياسة اليمين الإسرائيلي المتطرف بتغيير الواقع على الأرض (والتي كان الرئيس مرسي والإخوان أنفسهم أعلى الناس صوتا في إدانتها) ويفرضون واقعا بالعافية على الأمة المصرية؟

هل يعتقدون أن إرهاب، أو رشوة الفقراء، أو استغلال أئمة الجماعة والمنافقين لإيمان البسطاء وتخويفهم من فوق المنابر بجهنم إذا صوتوا بـ«لا» سيدفع بالدستور المزيف أسفل بلعوم الشعب فالمعدة المصرية «تهضم الزلط» وبالتالي تهضم الأمة الأمر الواقع، وعندها يأمر التنظيم السري البلطجية وأرباب الإرهاب برفع الحصار عن المحكمة الدستورية؟

هناك سوابق يمكن الرجوع إليها في القضاء المصري، ابتداء من مئات الأحكام التي أصدرها قضاة مصر الشرفاء ببطلان القرارات الجمهورية للتأميم التي سرق بها الكولونيل عبد الناصر ممتلكات الناس فأعادها القضاء لأصحابها الشرعيين، وانتهاء بحكم حل مجلس الشعب لمخالفته القانون.

الحيثيات القانونية التي سببت «المغص» لمكتب الإرشاد فدفع التنظيم السري بالبلطجية لمحاصرة المحكمة الدستورية، لن تختفي بالتصويت على دستور الإخوان. بعد أن يزهق البلطجية مع جفاف الأموال التي يدفعها البلد الصغير الشأن الكبير الطموح العالي الصوت سيتغلب العقل على العواطف والقانون المصري على شريعة الغاب.

الأزمة لن تنتهي بالأمر الواقع على موضة المستوطنات الإسرائيلية والقرارات الجمهورية بمجرد التصويت بنعم على الدستور لأن أقدم الأسس القانونية أن ما بني على باطل هو باطل.

وحتى إذا تدخل الجيش - باعتباره المؤسسة الوحيدة الباقية في الدولة - لإنقاذ البلاد وأقنع الرئيس بالاستقالة، لن تنتهي الأزمة أيضا، فكثير من قادة المعارضة العلمانية (المدنية كما يسمون أنفسهم بفهلوة بيع الترام خشية اتهام الإخوان لهم بالكفر) هزموا منطقهم العقلي بالتصويت لمرسي لا حبا بل استمرارا في الثورة ضد «الفلول» أحمد شفيق، لأنهم أسرى آيديولوجية شمولية متخلفة متعصبة (الناصرية القومجية العروبية) معادية للحداثة وللآخر وللعولمة وللتجارة الحرة، وللجيران ورافضة للسلام يفضلون زعماء من فرسان طواحين الهواء على الساسة المحترفين.

الثورة مستمرة إذن لمجرد الاستمرار لا للهدف، كالدراسة السيزيفية في معهد حكم الشعوب بلا أدنى فرصة لإتمام بكالوريوس حكم مصر.