سلبيات الدرس المصري على الثورة السورية

TT

«لا أستطيع الوثوق برجل لا يحكم نفسه بأن يحكم الغير».

(الجنرال روبرت لي)

«ثورة يناير (كانون الثاني)» في مصر مطلع عام 2011 أعطت قوة دفع لا تنكر للثورة السورية التي تفجرت خلال أسابيع معدودات في مارس (آذار) من العام نفسه. وعلاقات التأثر والتأثير بين مصر وسوريا، بل قل بلاد الشام عموما، لا تحتاج إلى شرح طويل.. فهي بدأت منذ التاريخ المكتوب للشرق الأدنى، وفي محطاتها العديدة حروب وانتصارات للفراعنة العظام من أمثال تحتمس الأول وتحتمس الثالث ورمسيس الثاني، وفي المقابل حكم الهكسوس (الملوك الرعاة) الطويل لمصر بعدما اجتاحوها من الشرق.

وعبر القرون، ولا سيما بعد الفتح الإسلامي وتمدد دول الخلافة الإسلامية العظيمة عبر مصر وبلاد الشام، تعززت الصلات وتكونت ولاءات مشتركة قوية. وفي ما يخص ما بات يعرف بـ«الربيع العربي» ربما ما كان ممكنا لـ«شرارة» محمد البوعزيزي في تونس أن تبلغ سوريا لولا أن أصابت مصر أولا.

مصر هي حقا القلب الجغرافي والسكاني للعالم العربي، وما يصيبها تتأثر به الكيانات العربية شرقا وغربا.. بصرف النظر عن اختلاف النسيج الاجتماعي والفوارق الاقتصادية والمفاهيم السياسية في كل كيان. واليوم عندما تمارس مصر شكلا من أشكال الانتحار السياسي والاقتصادي فإن تداعيات هذا «الانتحار» قد لا تتوقف عند حدود مصر. وفي اعتقادي ما عاد جائزا المجادلة في شأن ما حدث ويحدث في مصر هذه الأيام.. فالتصرف كما لو كانت ثمة فئة واحدة فقط مؤتمنة على «ثورة يناير» وما على الفئات الأخرى إلا أن تبايعها على السمع والطاعة وإلا ألصقت بها تهمة «الفلولية».. تصرف خطير لا تشابهه في التاريخ المعاصر سوى «الحقبة المكارثية» في أميركا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

إن الصورة التي تعطيها الرئاسة المصرية الجديدة لـ«الإسلام السياسي» عندما يصل إلى الحكم بأساليب ديمقراطية صورة مشوهة وإقصائية لا تعد بخير عميم.. ذلك أن أقل ما يمكن أن يقال عن الفريق السياسي - العقائدي الذي يمثله اليوم الرئيس الدكتور محمد مرسي هو أنه انتقائي في فهمه، أولا للديمقراطية، وثانيا للديكتاتورية وللاستبداد. والرئيس الذي عاش في الولايات المتحدة، وأدرك - كما أرجو - آليات التمثيل الانتخابي الصحيح، شاهد بأم العين أنه لا معنى للأكثرية من دون ضوابط وتفاهمات عريضة على الأسس الوطنية.

وأخيرا وليس آخرا، من العبث ممارسة السياسة بمنطق الانتخاب والاستفتاءات عندما يكون القرار الحقيقي الفصل خارج نطاق الانتخابات والاستفتاءات. مثال بسيط على ذلك، لماذا لم يطرح الرئيس مرسي على الشعب المصري، صراحة، مشروع مرجعية «المرشد» التي هو وحزبه ملتزمان بها؟ وهل يجرؤ الرئيس مرسي على إدخال بعض بنود البرنامج السياسي لحزب «النور» - حليفه الاستفتائي اليوم - في أي استفتاء شعبي؟

لعل أبلغ ما سمعته خلال الأسابيع القليلة الماضية كلام تاجر تذكارات أثرية في الأقصر خلال مقابلة صحافية ضمن تغطية تلفزيونية للتراجع المخيف في حجم السياحة، إذ قال شاكيا: «الحال واقف، وامبارح طلع لنا الشيخ مرجان عاوز يهد الهرم.. هو حد شافنا بنعبد الهرم؟!».

إزاء هذا الواقع المأساوي، بل على الرغم منه، يرفض الرئيس مرسي ومرجعيته السياسية التراجع.. بل يهربان بالتفويض الشعبي (نحو 1.5 في المائة) إلى الأمام باتجاه تغيير بنية مصر وهويتها في سباق محموم مع الوقت، ولو على حساب وحدتها الوطنية واقتصادها وعلاقاتها الخارجية.

ماذا تعني أمثولة «مصر - مرسي» لسوريا إبان ثورتها.. وبعد ثورتها؟ في اعتقادي تعني الكثير.

أولئك الذين تفننوا في تبرير الإحجام عن دعم الثورة السورية، ولا سيما على مستوى القوى العالمية الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي)، تذرعوا طويلا بالتطرف الأصولي الإسلامي.

منذ البداية، في درعا، اختار نظام بشار الأسد المواجهة بسلاح الفتنة الطائفية وتحويله إلى استراتيجية ابتزاز دامية حصدت حتى اللحظة ما بين 40 و100 ألف قتيل. ومنذ البداية أيضا دافعت كل من روسيا والصين عن مصالحهما الخاصة باسم مكافحة «الإسلام السياسي» الأصولي، وتجاوبت القوى الغربية معهما عمليا على الرغم من «المعركة الدبلوماسية» التي خاضتها ضدهما سواء داخل أروقة الأمم المتحدة أو ردهات مؤتمرات «أصدقاء سوريا».

وبين «الفيتوهات» الروسية - الصينية والحذر الأميركي - الغربي، ولا سيما خلال سنة انتخابية بامتياز في الولايات المتحدة، أمعن النظام السوري في حربه على شعبه بكل الأسلحة المتاحة تحت حد «الخط الأحمر» (!). ومع انهيار حالة الأمن والنظام في المناطق البعيدة عن سطوة الأجهزة الأمنية كان أكثر من طبيعي أن تتوجه إلى سوريا قوى جهادية تكفيرية.. تعتبر نفسها في حرب مفتوحة ضد الأنظمة والحكومات في العالمين العربي والإسلامي، ومنهما ضد العالم بأسره.

كانت المسألة مسألة وقت، لا غير، قبل أن تلاحظ هذه القوى المطاردة في باكستان والملاحقة في اليمن ومالي وغيرهما توفر «واحة» جهادية مثالية لها في أراضي سوريا التي انحسر عنها قمع النظام الأمني و«شبيحته» من مختلف الأصناف.

وفي نهاية المطاف، كما رأينا، وصلنا في سوريا مع كذبة النظام عن الإسلاميين إلى نهاية قصة «الراعي والذئب» التي تعلمناها في المدرسة، إذ دأب أحد الرعاة على الكذب على أهل القرية المرة تلو المرة عن ذئب يهاجم القطيع. وفي كل مرة كان يفرح لخداعهم، حتى جاء يوم هاجم فيه الذئب القطيع فعلا ولم يأت أحد لنجدة الراعي.

الواضح اليوم أن اختيار شخصية لها حيثية دينية على رأس «الائتلاف الوطني السوري» لا يزعج إطلاقا أبواق دمشق الرسمية التي ما فتئت تتكلم عن مؤامرة لتنصيب طائفي أصولي تريده بعض الدوائر محل «النظام العلماني».

ومن مراجعة أسماء الفصائل المسلحة والأسماء التي تطلق على «أيام الجمعة» يستشف حقا أن الثورة على بشار الأسد وزبانيته أخذت أبعادا غير مريحة حتى لأولئك المتحمسين للتغيير ومناصري الثورة بلا تحفظ. وهذا واضح أيضا من بعض التجاوزات الطائفية - ذات الغايات التهجيرية - والتفجيرات التي تضيع هويتها بين «الشبيحة» والجماعات الأصولية والتكفيرية.. فتوحي بأن تنظيمات «الإسلام السياسي» غدت البديل الأقوى احتمالا لطغمة حكمت طويلا بالابتزاز الطائفي ومنطق «تحالف الأقليات» تحت مظلة إقليمية أوسع منه تشمل إيران وإسرائيل.

الكلام الأميركي عن «جبهة النصرة» يأتي في هذا السياق، ولا يقل أهمية عنه توقيته بعد الاعتراف الدولي الواسع بـ«الائتلاف الوطني السوري».

المجتمع الدولي، على الأرجح باستثناء روسيا، يدرك اليوم حقيقتين: الأولى، أنه لا عودة إلى «سوريا - الأسد»، والثانية، أن سلبيات التجربة المصرية دخلت جديا في حسابات المجتمع الدولي.. وسيكون مكلفا جدا السماح بتكرارها في بلد له فسيفساء سوريا.