(التحديج) بالنظرات

TT

ذهبت إلى عيادة أحد الأطباء للاطمئنان على قدراتي ولياقتي الصحية كإجراء روتيني.

كانت الساعة العاشرة صباحا عندما وقفت أمام مكتب موظفة الاستقبال، التي قدمت لي ورقة طويلة عريضة تحتوي على مجموعة من الأسئلة والاستفسارات، أجبت عليها كلها وأنا أنفخ بفمي تصفيرا ممسوقا دلالة على تفاؤلي وحبوري وانشراحي.

وما إن انتهيت من الكتابة والتصفير حتى مددت لها الورقة بابتسامتي المعهودة قائلا لها: تفضلي يا ستي. ويبدو لي أن تلفظي لها بكلمة (يا ستي) لم تعجبها، فلوت بوزها قليلا وهي تتمتم: (أما حكم)!، ثم رفعت صوتها بكل جفاصة قائلة: هات 200 ريال رسوم الكشفية. أخرجتها لها ووضعتها أمامها، فأشارت لي بيدها نحو غرفة الانتظار.

وما إن دخلت وقبل أن أجلس وجدت في المكان رجلا يبدو على سيمائه أنه (طهقان) - أي زهقان ونفسه في رأس خشمه - لأنني ما إن قلت له: السلام عليكم، حتى رفع رأسه وأخذ يحدجني بنظراته وكأنه يقول لي: بأي حق أنت تطرح علي السلام؟! ولم يرد.

فما كان مني إلا أن أرد له التحديجة بأحدج وأكبر منها، إلى درجة أن عينيّ كادتا أن تخرجا من محجريهما، بل وتحطما زجاج نظارتي، لولا أن الله ستر.

جلست غير آبه به، وزيادة مني بإهانته تصنعت الكبرياء واضعا رجلا فوق رجل، وما هي إلا دقائق حتى استدعته الممرضة للطبيب، وحمدت الله، ولكنني قبل أن أتنفس الصعداء إذا بي اكتشف أن هناك من يشاركني نفس الغرفة، وهو أثقل ظلا من ذلك الرجل بمراحل، ألا وهو تلفزيون صغير معلق على الجدار ويكاد يلامس السقف، وكان يعرض تمثيلية خليجية بأصوات مرتفعة، بموضوع مكرر ممجوج وكله (دراما) تدور حول الزواج والطلاق و(العياط) المستمر، أما الممثلون والممثلات (فالله لا يوريكم)، إنه فعلا شيء يغم، وإنني أستغرب من قناة (mbc) بإصرارها على تعذيبنا بهيك تمثيليات على صباح رب العالمين.

المشكلة أنه ليس هناك (ريموت) لكي أغير المحطة أو حتى أخفض الصوت، كما أنني مهما وقفت وقفزت فلن أصل إليه إلا إذا قذفته بشيء، فكرت بمفتاح السيارة أو بحذائي، غير أنني تراجعت خوفا من أن أتحمل الخسائر.

وطال انتظاري وأخذت أتلفت باحثا عن مجلات أسلي بها حالي، غير أنني لم أجد غير كتاب بعنوان: (الدعاء للميت)، فارتجفت لا شعوريا وتشاءمت وتطيرت، خصوصا عندما لمحت عنوان أحد فصوله وهو: (النياحة والبكاء على الميت تؤذيه)، لأنني لم أفقد أحدا من الأحباب أو الإخوان أو الأصحاب إلا ونحت وبكيت بل وجعرت عليه، فمعنى ذلك أنني فوق أن آذيتهم في حياتهم الدنيا، ها أنا ذا ألاحقهم وأؤذيهم ولم أتركهم مستريحين حتى في مماتهم!

وتعجبت حقا وقبل كل شيء من هذه العيادة التي بدلا من أن تضع بين يدي زبائنها كتابا يبشر بالحياة، إذا بها تضع بين يديهم كتابا يبشر بالموت.

عندها نهضت وانطلقت خارجا، وانتبهت لي موظفة الاستقبال وسألتني مستغربة: على فين (يا مسيو)؟! فحدجتها بنظراتي دون أن أرد عليها.

وتذكرت متأخرا وأنا أقود سيارتي أنني لم أسترد رسوم الكشفية.

[email protected]