زرقاء اليمامة.. المحجبة!

TT

يوم الثلاثاء الماضي قرأت مقالة مفيدة وممتعة، كالعادة، للكاتب الأستاذ محمد الرميحي، في هذه الجريدة، بعنوان: «الإخوان والحرية».

الكاتب تحدث عن كتابين طالعهما للقيادي الإخواني المصري المنشق عنهم، ثروت الخرباوي، آخرهما بعنوان: أسرار المعبد، وأولهما، قبل ما سمي بالربيع العربي، الذي آل إلى ربيع إخواني قبل أكثر من عام، والكتاب بعنوان: في قلب الإخوان.

ما استوقفني هو تعليق الأستاذ الرميحي عن الفرق بين انطباعه الأول عن الكتاب الذي ألفه الخرباوي قبل وقوع الواقعة، أعني هيمنة الإخوان على السلطة في مصر باسم الربيع العربي والأحلام الثورية (الآن يتصارع مع الإخوان غيرهم على أحقية الانتماء للثورة). ثم عن انطباعه، أعني الرميحي، عن الكتاب الثاني للخرباوي الذي ألفه مؤخرا، بعد صعود الإخوان وتبيان النهم للسلطة عندهم. وهو كتاب أسرار المعبد.

يقول الأستاذ الرميحي: «وقع في يدي كتاب في منتصف عام 2010 شدني عنوانه وكان (في قلب الإخوان)، والكتاب هو لثروت الخرباوي، قرأت الكتاب وقتذاك، كما تعودت أن أتابع تلك الحركة السياسية التي تقدم خلطة (دينية سياسية) تميل إلى الإقناع بالخروج من المأزق الحضاري العربي. وقتها أي 2010 كان كل ما عرف بعد ذلك بالربيع العربي في علم الغيب، لم يكن هناك حتى إشارات للزلزال الذي أتى بعد ذلك وبدأ بأواخر عام 2010 في تونس».

ثم يضيف الأستاذ الرميحي: «ذلك الكتاب قرأته بتحفظ، ورسم صورة في ذهني للكاتب الذي وجدت أنه جرح في الوقت الذي كان مؤمنا ونشطا كأفضل ما يكون (الإخواني المنظم) و(المنضبط). بقيت أفكار من ذلك الكتاب في خاطري، وكان نشره في وقت لم يكن أي من أهل البصيرة قد توقع وصولهم إلى الحكم».

أتفهم كلام الأستاذ حول مفاجأة الغيب فيما سمي بالربيع العربي، كما أتفهم أيضا حجم الاندهاش من مخبوء الإخوان السياسي الذي كان مطمورا تحت أكسية الشعارات الثورية الدينية وأغشية العبارات المدنية الغامضة.

نفى أن يكون «أي من أهل البصيرة» قد توقع وصولهم للحكم، ويؤرخ لهذا النفي بعام 2010، أعتقد أنه نفي يحتاج إلى تأمل.

أنشأ حسن البنا جماعته عام 1928، حسب أشهر التواريخ، والبعض مثل الباحث حلمي النمنم في كتابه (حسن البنا الذي لا يعرفه أحد) يطرح روايات أخرى حول التاريخ الحقيقي لنشأة الجماعة، وشركاء البنا في إنشائها.

منذ تلك الأيام والجماعة مغموسة في السياسة والسياسة مغموسة فيها، وهي تخطط للحكم منذ تلك السنين. كما أشرنا في مقالة سابقة إلى رسالة المرشد الحالي للجماعة محمد بديع في 29 ديسمبر (كانون الثاني) 2011، بعنوان: (وضوح الهدف والإصرار عليه.. طريق النهضة)، تحدث فيها عن غاية الإخوان النهائية في الحياة السياسية وأحلام السلطة الكبرى، مشيرا إلى أن ما قاله حسن البنا في (رسالة المؤتمر السادس) التي حدد فيها أهداف الجماعة، وهي حسب المرشد الحالي محمد بديع:

«لقد حدد الإمام البنا لتلك الغاية العظمى أهدافا مرحلية ووسائل تفصيلية.. تبدأ بإصلاح الفرد ثم بناء الأسرة ثم إقامة المجتمع ثم الحكومة، فالخلافة الراشدة فأستاذية العالم». وهي عبارة غاية في الوضوح لمن له بصيرة، عن أطماع السلطة الإخوانية الكبرى.

وهو، أي الانغماس في السياسة وأطماع السلطة، كان عيبا بنيويا في الجماعة منذ تأسيسها، وكان هذا النهم على ألاعيب السلطة والسياسة ممزوجا بنفس ودم البنا وأساسات العصب الإخواني، وكان هذا الانغماس من أسباب النزاع الشهير بين الشيخ أحمد السكري، وهو زميل البنا في التأسيس، وأكبر منه عدة سنوات، وقد زامل البنا طيلة ثلاثة عقود، ثم فصله المرشد الأول حسن البنا، فرد عليه السكري بهذا الخطاب الشهير والموجع، وفيه يذكر السكري مسوغات اعتراضه على البنا ونهج قيادته للجماعة «الدعوية» كما يفترض، فيقول: «سر ما وصلنا إليه من تدهور واضطراب لا يخفيه هذا الطبل الأجوف والدعايات الفارغة التي تمتلئ بها الجريدة كل يوم - يعني جريدة (الإخوان)».

ويتابع السكري: «أما هذان الأمران فهما: 1 - دخول بعض العناصر الانتهازية المأجورة في صفوفنا بإيعاز من رجال السياسة، وتدخل سادتهم في شؤوننا، وتضحيتك بأغلى رجال الدعوة في سبيل رضاهم».

2 - «الإغراق في السياسة الحزبية تبعا لذلك إغراقا تاما، وتقلبك في هذه السياسة وتناسي أهدافنا السامية، مما جعلنا موضع مساومة الجميع».

بل إن هذا النقد للسلوك البراغماتي للشيخ البنا، إذا شئنا الرقة في العبارة، هو أمر ذائع شائع عنه ووسم به ثقافة الجماعة السياسية التربوية، ومن يقرأ رد جماعة (شباب محمد) عليه، في حياته، بخصوص تصرفه بمالية الجماعة واستثمار اسم فلسطين سياسيا ودعائيا يدرك ذلك البعد السياسي الخفي القاسي في طبع الجماعة.

بمناسبة ذكر فلسطين، أحب التذكير - مرة أخرى - بشاهد مهم وقديم لأحد كبار الكتاب والعلماء من سوريا، من القرن الماضي، وهو علامة الشام محمد كرد علي، المناضل الوطني المعروف، ومؤسس ورئيس المجمع العلمي بدمشق الذي أسسه سنة 1919، وهو أكبر في السن حتى من حسن البنا نفسه، مؤسس الجماعة 1928، يقول العلامة محمد كرد علي (توفي 1953)، نقلا، على سبيل التأييد، عن الصحافي المعروف سعيد التلاوي صاحب جريدة «الفيحاء» التي أسسها 1947، متحدثا عن جماعة الإخوان المسلمين، وبالتحديد استخدامهم الدعائي لقضية فلسطين: «أما الإخوان المسلمون فإنهم لم يفعلوا شيئا لأجل فلسطين غير جمع نفر من جماعتهم وسوقهم لدمشق لعرضهم على الناس في الشوارع إرضاء لشهوات النفوس».

ويضيف التلاوي متحدثا بحرارة نقدية مبكرة للجيل المؤسس منهم: «الإخوان المسلمون جماعة طغت عليهم الأنانية وفتنتهم الدنيا وغرتهم الحياة فطفقوا يعملون على بلوغ الشهرة والجاه والسلطان من أقرب الطرق؛ وهو طريق الدين الحنيف والشريعة السمحاء». (مذكرات محمد كرد علي، ج 2، ص531 و532، دار أضواء السلف).

نعم هذا ليس هجاء ولا مجرد تحامل على الجماعة بل «موقف» نقدي مبني على معطيات تاريخ وأدبيات الجماعة نفسها، وما تفرع عنها من تيارات وجماعات.

البعض كان يتحاشى أن يختلف مع الإخوان سابقا، حتى لا يصنف مع السلطة الحاكمة، ولاحقا بعد الربيع العربي خشية من مدفعية الإخوان الإعلامية والاجتماعية والتكفيرية والتخوينية، مصر ونزاعات الدستور حاليا مجرد مثال على آلة الإخوان التشويهية للخصوم.

لكن، ودوما يقال، لا مناص من الاشتباك النقدي العميق مع فكر التيارات الأصولية السياسية، وهو اشتباك تأخر كثيرا إما بسبب الخطأ في تصور طبيعة مشكلة المجتمعات العربية والمسلمة، مثلما يفعل الإخوان وما تفرع عنهم بتصوير المشكلة بأنها مجرد البعد عن النموذج الإسلامي، وهم طبعا القوامون على هذا النموذج والحماة له، وإما بسبب سطحية وحدة التيارات اليسارية والقومية في تصوير المشكلة في البعد الخارجي الأجنبي. وقليل من هؤلاء أو هؤلاء وجه مشارط النقد للعلة الداخلية لثقافتنا الحاكمة.

وصول الإخوان للسلطة الآن وانغماسهم في وحلها قد يكون هو المدخل الصحيح للنقاش الكبير في العالم العربي، وهو نقاش الذات ونقد الذات للذات.. أخيرا.

أما بشأن التحذير من أن هذه الجماعة تعد العدة للحكم والسلطة تحت شعارات متباينة ومضللة و«مؤقتة»، فهذا ما قيل قبل 2010 كثيرا، ومن أكثر من طرف، يحضرني منه الآن ما وسمه صاحب هذه المقالة في 5 أغسطس (آب) 2008 بعنوان: «الإخوان والرماح المقدسة»، بالإحالة إلى حيلة أصحاب معاوية ضد علي ورفع المصاحف فوق الرماح، للاستعانة بسلطة المقدس (المصحف) من أجل غاية دنيوية (كسب الحرب والسلطة)، وهو بالضبط ما يفعله الإخوان ومن لف لفهم هذه الأيام في عالم السياسة.

التحذير قيل، منذ نشأة الجماعة إلى أول يوم من الربيع العربي.. وحفز القوم ضد شجر «التبع» الوهمي كما فعلت زرقاء اليمامة، صار، ولكن لا صدى للصوت ولا مغيث.

[email protected]