محنة شاب تونسي ناجح!

TT

رغم ثراء معجم اللغة العربية بالكلمات التي تعبر عن المعاناة والألم بشكل بليغ ودقيق يصور المعاناة في أطوارها كافة ووجوهها غير المحدودة، فإن عبارة «المحنة» تبقى ذات مضمون استثنائي، لا من حيث بلاغة التوصيف فقط بل وتحديدا لقوة رصيدها الدلالي وصلتها بمدلولات أخرى تتقاطع فيها جزئيا. فبين عبارتي «المحنة» والامتحان مثلا وشائج قربى على مستوى المعنى والحالة.

سامي الفهري: اسم معروف جدا في تونس، وتعود شهرته إلى ما قبل اندلاع الثورة التونسية التي يبدو أن هناك إرادة سياسية واضحة كي يكون من ضحاياها عوض أن يكون من المستفيدين من بشائرها وعلى رأسها بشرى الحرية والقضاء المستقل والحرية في التعبير والإعلام.

ولكن لم يستفد من بشائرها ولا من طابعها الشبابي الغالب، فكان وهو الشاب من ضحاياها ومن أكباش فدائها. فأين تكمن مظاهر محنة سامي الفهري القابع في السجن منذ أكثر من ثلاثة أشهر؟.. وإلى أي حد أسهم نجاحه في حصول هذه المحنة؟

من التناقضات الكثيرة والتجاوزات العديدة التي حفت بقضية سامي الفهري آخر التطورات المتمثلة في إصدار محكمة التعقيب بطاقة سراح في حق سامي الفهري، وتعنت دائرة الاتهام منذ ثلاثة أسابيع ورفضها الإفراج عنه، والأكثر غرابة رواج أخبار تقول إن بطاقة إيداع قد وجهت ضده مؤخرا بقصد منع خروجه من السجن، بما يُوحي بأننا أمام ضغط سياسي ومعالجة سياسية بل وحتى حزبية صرفة لملف من المفروض أنه من مشمولات القضاء فقط. وما زاد في تأكيد التوجه السياسي الحزبي لقضية سامي الفهري شهادة أحد رموز «الترويكا» الحاكمة محمد عبو في برنامج تلفزي بأن ظروف توجيه بطاقة إيداع الأولى والسرعة التي تمت بها هي ظروف لا تمت بصلة للإجراءات القضائية الموضوعية والعادية، وهو ما ذكّره وهو سجين سياسي سابق - أي محمد عبو - بالطريقة التي كان يُودع فيها السجن في أيام الرئيس السابق بن علي.

إنها شهادة تؤكد تدخل السياسة في قضية سامي الفهري، إضافة إلى تواتر تصريحات وزير العدل بأن سامي الفهري سارق أموال التونسيين بنبرة واثقة ينفصل فيها حتى عن تكوينه كمحام من المفروض أن مبدأ المتهم بريء حتى تثبت إدانته من أساسيات مهنته والعمود الفقري الذي تقوم عليه مهنة المحاماة.

قد يتساءل قراء «الشرق الأوسط»: لماذا سامي الفهري بالذات وإلى أي مدى يصح وصفه بالناجح؟

في الحقيقة غالبية التونسيين تجمع على إبداع هذا الشاب وقدرته على النجاح وتجديد العهد مع النجاح. فهو من الأسماء الناجحة جدا في الوسط الإعلامي التونسي، والقلائل الذين أسهموا في مصالحة التونسي مع القناة العمومية التونسية الأولى، فكانت بدايته مع برنامج «آخر قرار» الذي يعود إلى أكثر من 12 سنة، ثم تتالت نجاحات هذا الشاب مع برامج أخرى كثيرة تتميز بطرافة الفكرة والطرح. وتدعى الشركة التي جسد فيها سامي الفهري أفكاره «كاكتيس»، وكان شريكه فيها بلحسن الطرابلسي صهر الرئيس السابق.

ومن ثمة فإن أولى المؤاخذات على سامي الفهري علاقته ببلحسن الطرابلسي، وأيضا اتهام الشركة باستغلال النفوذ وعدم تسديد مستحقات مؤسسة التلفزة التونسية. وبالنسبة إلى المؤاخذة الأولى من الصعب فصلها وعزلها عن الواقع العام للاقتصاد التونسي في مرحلة ما قبل الثورة، حيث كان أصهار الرئيس السابق وعائلته يهيمنون على قرابة 40 في المائة من الاقتصاد التونسي آنذاك. كما أن الشارع الاقتصادي والتونسي عموما يعلم عمليات الابتزاز التي كانت تُحاك ضد عدد كبير من رجال الأعمال، وإرغامهم على مشاركتهم في رأس المال من خلال تقديم تسهيلات يستخدمون فيها قرابتهم بالرئيس السابق. ومن ثم فإن المنطق يقول إن سامي الفهري قد يكون ضحية تلك الشراكة.

كما أن المسألة المالية التي تبدو محفوفة بأسئلة كثيرة غير واضحة، حسب تصريحات محاميه، كان من الممكن على الأقل النظر فيها من زاوية التفاوض من أجل التسوية بدل إيثار محاكمته وسجنه من أجل حسابات أخرى الظاهر أن صلتها بسبب السجن ضعيفة، بدليل تأخر توجيه بطاقة الإيداع، حيث بدا توقيت إصدارها كأنه عقوبة على ما اقترفته قناة «التونسية» من انتقادات لاذعة للحكومة وسخرية من قياداتها طالت حتى الرجل المقدس في حركة النهضة: السيد راشد الغنوشي.

وفي هذا الإطار، نفهم مواقف الإعلاميين التي ساندت سامي الفهري عندما تم إيقافه في السجن، ودافعت عن حقه في ممارسة حرية الإعلام في قناة لا تزال تجريبية لكنها من أكثر القنوات التونسية مشاهدة رغم قصر عمرها، وهو ما يؤكد قدرة هذا الشاب على صنع النجاح قبل الثورة وبعدها.

لقد أزعج سامي الفهري قبل الثورة الكثيرين بنجاحه، حيث اعتبروا أن نجاحه جاء على حسابهم، لذلك ذهب في ذهنهم بعد الثورة أن أمره انتهى، وأن الثورة ستكنسه. لكنه فاجأ هؤلاء وحتى المؤمنين بموهبته وصدقه بأنه تحدى كل الهزات، وتمسك بحقه في مزيد من صنع النجاح، ولم يُحبط الذين راهنوا عليه وانضموا للعمل معه. من حق هذا الشاب التونسي الناجح والطموح والمجتهد أن ينعم بتونس الجديدة، خصوصا أنه أثبت أنه مثال للشاب الذي يرفع التحديات، والذي لا يهرب، حيث فتح في عز الهجمة الشرسة قناة تلفزيونية ناجحة وراهن على العمل وحقه في تونس للجميع، ورغم أن شبح السجن كان يلاحقه كظله فإنه لم يذعن ولم تتوقف قناته عن الإبداع والنقد والجرأة.

إنها محنة شاب تونسي ناجح لم يسمح لقناته بأن تتراجع ولو قليلا عن النقد اللاذع حد السجن، وهي نقطة تكشف معدن هذا الشاب!