خرجت جموع الشعب المصري لتقول «لا» للاستفتاء على الدستور الذي كان معروضا عليها، وعلى الرغم من ذلك «أظهرت» النتيجة على عكس ما صوت به الشعب. الشعب المصري كله أو غالبيته الكبرى تدرك ذلك على نحو يقيني، ولكن الفئة التي تحكم مصر لم يرضها ذلك وقررت «باسم الله» أن تزور النتيجة تزويرا فاضحا.
وقد أثبت الشعب المصري أنه حريص على الإدلاء بصوته ووقفت طوابير طويلة من الرجال والنساء والكبار والصغار والمسيحيين والمسلمين.. وقفت كلها لتبدي رأيها متصورة أن عهود التزوير قد زالت إلى غير رجعة فإذا بها تعود على نحو فج وممجوج.
والسؤال الآن ما معقبات ذلك كله؟
لم يكن الشعب المصري منقسما إلى فسطاطين مثل هذا الانقسام المحزن والحزين.
قلة منظمة تتصور أن بيديها حلولا لكل شيء وأن العقيدة التي تؤمن بها هي الدواء الناجع لكل داء، وتلك هي خاصية كل الأحزاب الآيديولوجية المطلقة بدءا من الماركسية التي كان دعاتها يتصورون أنهم وضعوا أيديهم على نهاية العلم وعلى حلول لكل مشاكل المجتمع. وكذلك أيضا – مع اختلاف المنطلقات – الأحزاب الفاشية والنازية.
هذه هي القلة المنظمة التي تحكم مصر الآن والتي أعلنت – وهي تعلم يقينا عكس ما أعلنته – من أن الاستفتاء على الدستور جاء بالموافقة عليه.
وفي مواجهة هذه القلة المنظمة غالبية من الشعب المصري في مقدمتها ذلك الشباب الطاهر النبيل الذي فجر ثورة الخامس والعشرين من يناير ومعه جبهة الإنقاذ التي أدركت مدى الخطر الذي يتهدد مصر فالتفت وتجمعت لتواجه الخطر المحدق بمصر.
والآن ماذا سيصير إليه الحال؟
سيستمر الصدع وسيزداد الانقسام بين أبناء الشعب المصري الواحد على نحو غير مسبوق في التاريخ المصري الحديث وسيجري دم كثير من هنا ومن هناك على هذا التراب الطاهر. وسيزيد هذا الدم من الفرقة والاحتقان.
وستتصور القلة الحاكمة أن الأمور قد دانت لها وستستمر في تجبرها وطغيانها محاولة أن تهدهد شعور الناس وتدغدغ عواطفهم بشعارات من الدين، وغاب عن هذه الجماعة أن جموع الشعب المصري قد نضجت وأصبحت لا تنطلي عليها الشعارات وأنها تريد عملا صادقا ونهضة حقيقية تعوض ما فاتها من تخلف في كل مناحي الحياة.
وستستمر أيضا هذه القلة في محاولة الاستئثار بكل شيء وستقصي غالبية طوائف الشعب عن كل شيء. وأخطر ما في هذا الأمر وأكثره نيلا من وحدة هذا الشعب العريق محاولة إقصاء الإخوة الأقباط الذين هم مواطنون لهم كل حقوق المواطنة والذين دعت كنائسهم الثلاث – الأرثوذكسية والإنجيلية والكاثوليكية – إلى الذهاب إلى الاستفتاء. وبطبيعة الحال كان مضمون الدعوة الظاهر هو حرية الإدلاء بالرأي، ولكن المضمون الحقيقي كان الدعوة إلى الرفض لما يحويه الدستور المستفتى عليه من توجه خطير نحو إقامة دولة فاشية دينية تتمسح بالإسلام والإسلام السمح منها بريء. وهذا الانقسام هو أخطر ما يواجه مصر على مدى تاريخها الطويل. إن ثراء التجربة التاريخية الحضارية المصرية هو في هذا التراكم بين ألوان متتالية من الثقافات والحضارات الفرعونية والهيلينية والرومانية والقبطية والإسلامية، وكانت مصر تزداد قوة ومنعة وهذه الحضارات متراكمة مؤتلفة وتزداد ضعفا وهوانا عندما يحاول بعض أبنائها – كما يحدث الآن – أن يجتزئ من تاريخها كله في حضارة واحدة، بل الأسوأ من ذلك حضارة يفسرونها على هواهم وليس كما فهمها مفكرو الإسلام العظام من أمثال ابن رشد وصولا إلى الإمام محمد عبده، ثم الإمام أحمد الطيب والدكتور عبد المعطي بيومي عميد كلية أصول الدين بالأزهر الشريف صاحب الكتاب العميق «الإسلام والدولة المدنية» الذي يثبت فيه أن الإسلام لم يعرف ولا يقر ما يقال له الدولة الدينية، ووثيقة المدينة المنورة التي عقدها الرسول صلوات الله عليه بعد الهجرة واستقرار الأمور تعبر عن جذور فكرة دولة المواطنة إذ آخى فيها بين سكان المدينة جميعا من مسلمين ومسيحيين ويهود.
الإخوة الذين يحكمون مصر الآن لا يرون هذا الرأي بل إنهم يذهبون إلى أن «الفرقة الناجية» هي الإخوان المسلمون وحدهم وأن من غيرهم من المسلمين هو على ضلال مبين.
الشرخ يتسع والشقاق يتسع وتقديري أنه لا أحد سيستسلم للآخر وأن الصراع سيزداد وأن دماء كثيرة ستسيل وأن هذا الدم سيزيد من الفرقة. وهذه هي الهاوية التي أقصد إليها في عنوان هذا المقال. فهل معنى هذا أن نستسلم لليأس ونترك مصر تنهار؟
يقينا لا. ولكن بناء الديمقراطية بأركانها المكتملة تحتاج إلى وقت وإلى بذل ثمنها الذي دفعته شعوب كثيرة قبلنا.
الديمقراطية ليست مجرد صندوق الانتخابات كما يظن البعض. الديمقراطية أكبر من ذلك بكثير. الانتخابات ركن في الديمقراطية لا بد وأن يؤدي إلى تداول السلطة. هذا هو هدف الانتخابات.
وسيادة القانون واستقلال القضاء ركن جوهري في الديمقراطية، فهل حصار المحكمة الدستورية العليا ومنع المحاكم الأخرى من العمل يعني سيادة القانون أم يهدم سيادة القانون.
مصر مقدمة على مرحلة صعبة، ولكنها ستخرج منها بفضل الوعي المتصاعد الذي نحس به لدى شبابها وبفضل الإصرار لدى هذا الشعب العريق أن يخرج من كبوته وأن يعبر الهاوية إلى بناء ديمقراطية حقيقية تحقق الدولة الحديثة المدنية دولة كل المواطنين.
والله المستعان.