الجهاد المدني والتاريخ العربي

TT

من الأوهام التي آمنا بها، وصدقنا فيها بعض الغربيين، أن الأمة العربية كانت قوة ضاربة لها بطولاتها الخارقة وقدراتها الحربية البارعة. أوقعنا في هذا الوهم نجاحها المذهل في اكتساح العالم من الأندلس إلى الصين في نحو نصف قرن. لكن هذا النجاح لم يتأت من مقدرتها الحربية بقدر ما نتج عن ضعف خصومها. لم يكن هناك من يقف ضدها. فالإمبراطوريتان الفارسية والرومية كانتا قد خرجتا من حرب دامية بينهما استغرقت سنين طويلة وأرهقتهما كليا. ولم تكن هناك أي حكومة فعالة في شمال أفريقيا. وكانت الأندلس مجموعة من الإمارات المشغولة في منازعاتها الداخلية. فاجتاحت الماكينة العربية العالم مثل إبرة في قطعة آيس كريم.

تتميز الشكيمة العسكرية لأي أمة في معاركها الدفاعية البطولية وليس في فتوحاتها وغزواتها. هكذا يعتز الإغريق في دفاعهم عن أثينا ضد الفرس، ويعتز الفينيقيون في دفاعهم عن قرطاجة، والروس في دفاعهم عن ستالينغراد والألمان في دفاعهم عن برلين. لم يخض أجدادنا أي معارك من هذا النوع. لقد سلموا عروس الشرق، بغداد، وعروس الغرب، غرناطة، للأجنبي من دون إراقة قطرة دم واحدة دفاعا عنهما. المعركتان اللتان نعتز بهما، القادسية واليرموك، كانتا معركتي غزو لم تستغرقا غير أربعة أو خمسة أيام وبأقل ما يمكن من الضحايا. يصف الجنرال غلوب حروب الجاهلية بأنها كانت أشبه ما يمكن بعركات الحارات لا تستغرق غير ساعات قليلة ولا يموت فيها غير بضعة أفراد.

تعتز الأمم المحاربة بتنظيماتها العسكرية التي تكرس فيها الأمهات أبناءهن منذ الطفولة لفنون الحرب والقتال، كما اليونكرز عند الألمان والسموراي في اليابان والإسبارطيون عند الإغريق. لم يعرف عن العرب أي تنظيم فدائي ومهني للحرب مثل ذلك. تعاملوا مع الحرب والقتال في إطار الهواة. كانوا يكرهون الحرب ويسمونها بالكريهة. يبدو أننا قوم نخشى الموت ونمقته. انظروا لكل هذه المآتم والمواكب الجنائزية وما يصحبها من النحيب والعويل واللطم والدراماتيكيات. لا أحد ينافسنا أو يبزنا فيها. نحن قوم نحب الحياة ونعتز بها وبالاستمتاع فيها ونتوجع لفقدها. وليس في ذلك أي عيب، بل هو حكمة ومفخرة.

المشكلة هي أننا نحاول أن نتجاهل ذلك ونمني أنفسنا بالروح القتالية وفكرة التمسك بالنضال المسلح والاعتقاد بأن البندقية هي الحل. جل ما وقعنا فيه من النكسات في العصر الحديث يرتبط بهذا الوهم. ما علينا غير أن نتذكر صدام حسين ومحاولاته الرعناء وكل ما نتج منها من خراب لبلده. الإيمان بالسلاح والعنف الثوري هو الذي جرنا في الأخير إلى شيوع الإرهاب بيننا. إنه النتيجة المنطقية والحتمية لاعتماد السلاح والقوة. حقيقة تاريخنا تعلمنا بأن من الأفضل لنا تحاشي الدخول في منازعات مسلحة مع الغير ومحاولة تصفية مشاكلنا مع الخارج ومنازعاتنا ومشاكلنا في الداخل بالطرق السلمية واعتماد أساليب الجهاد المدني اللاعنفي. يا ليتنا اعتمدنا التعليم الإلزامي بدلا من التجنيد الإجباري.