عزبة الزبالين

TT

اختفت من شوارع بيروت منذ سنوات أصوات «تجار» الحديد والزجاج المستعمل، الذين يجولون الأحياء على الحمير وهم ينادون السكان: «حديد للبيع. قناني فاضية (زجاجات فارغة) للبيع. أوانٍ عتيقة للبيع». وكانوا يدفعون ثمن هذه البضائع، إما قروشا قليلة، أو «قضامي» (حمص مملح ومحمص). ولذا ينادون أيضا «حديد بقضامي».

لم يكن هناك الكثير من الحديد ولا الكثير من «القضامي». لكن هذه البضائع كانت تذهب على ما يبدو إلى مصانع صغيرة تعيد صهرها وبيعها من جديد. وفيما ذوت هذه التجارة في بيروت، فإنها بقيت تزدهر في القاهرة، حيث نشأت في منشية ناصر مدينة كاملة، أو عالم كامل، يعيش من «تدوير» القمامة في عاصمة العشرين مليونا. ألوف العائلات القادمة من الصعيد منذ الأربعينات تعيش من جمع القمامة ثم فرزها إلى مواد من الحديد أو الزجاج أو الفضلات التي تطعم للحيوانات.

تبدو «عزبة الزبالين» في المقطم مأخوذة من مشهد في أعمال الروائي السوري حنا مينه الأولى، على أطراف لواء الإسكندرون.

عجيبة القاهرة، كيف عثرت لنفسها على اقتصاد خارج الاقتصاد، وتجارة خارج التجارة، وصناعة خارج الصناعة؟ هناك نحو 2500 مصنع تعيد كل يوم إعادة «صنع» 4.500 طن من القمامة. وكما يعيش الألوف في مدينة المقابر، يعيش أضعاف هؤلاء في ما يسميه المصريون «الزرائب».

يطلق بعض أصحاب التصريحات والمظاهرات على أنفسهم لقب «المناضلين». وكل امرأة قالت كلمة عن حقوق النساء في مقهى تسمي نفسها «مناضلة». لا أعرف ماذا نسمي هؤلاء القوم الذين يعيشون حياتهم في تلك الروائح، غائصين في تلك الأكياس، جوالين في أحياء القاهرة بحثا عن رزقهم في فتات وفضلات ومرميات الآخرين؟! لكن الناس اعتادوا أن يسموا هذا الجزء من المجتمع بأسرة «الزبالين». وأذكر من رسوم صلاح جاهين في «صباح الخير» كاريكاتيرا يقول: «الناس فريقان: واحد يرمي الزبالة، وواحد يلمها».

كنا نرى في بيروت زبالين، لكننا لم نكن نرى بشرا يفتشون عن الأكل في أكياس القمامة. الآن أصبح المشهد مألوفا يمر به الناس من دون أي رد فعل. بدأ المشهد يتكرر ويتراكم في الحرب الأهلية التي يبدو أنهم سوف يمرون بها على العالم العربي كله. الآن يصورون طوابير الأفران في حلب كما كانوا يصورون طوابير الأفران في بيروت. إذلال وتجويع وإهانة متنقلة من مدينة إلى مدينة. وأما في السلام فإن «عزبة الزبالين» تنمو وتتوسع. من يفعل بنا ذلك: الاستعمار أم الإمبريالية أم الصهيونية؟ هذه صناعة محلية وطنية قومية لا غبار عليها. وإنما عليها سم وإجرام وغطرسة وفساد وجهل. وإليكم كيف ينتهي المتكلون.