يعيبون على التلفزيون والعيب فيهم

TT

ليس غريبا إحساسنا بتأثير وسائل الإعلام، هذا أمر يزداد ويتطور مع ما تقدمه لنا التكنولوجيا، ولكن من الغرابة أن يتهم جهاز إعلامي ضخم كالتلفزيون بأنه وسيلة لتكوين الانطباعات أكثر من كونه مصدرا للمعلومة الصحيحة بسبب انحيازه في خطابه لطرف سياسي ضد آخر. مع أننا نعيش في وقت لم نعد نستطيع حصر عدد التلفزيونات التي تملأ الفضاء.

هذا الاتهام جاء بعد أن صدرت دراسة أجرتها رئاسة الجمهورية المصرية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تقول إن أكثر من 90 في المائة من القنوات التلفزيونية الخاصة تنحاز في خطابها ضد الرئيس مرسي، في حين انخفضت هذه النسبة إلى 70 في المائة في التلفزيون الحكومي، طبعا لأنه حكومي.

على الرغم من أن الدراسة ليست من مصدر محايد إلا أن نتيجتها مقبولة لأنها معقولة، وسنأخذها بعلتها ونقول بأنه لو عملت هذه الدراسة على أهل القانون من قضاة وادعاء ومحامين لانكشفت النتيجة نفسها، ولو درست انطباعات القطاع العسكري لن تبتعد النسبة كثيرا، وغني عن القول بأنه لو عملت نفس الدراسة على الفنانين لجاءت هذه النتيجة.

تفسير الدراسة ليس كما يبدو، بأن هناك فكرا مضادا للفكر الإسلامي تمتلئ به القنوات الفضائية، فالكثير من الإعلاميين أعلنوا انتخابهم لمرسي مثل غيرهم من المصريين لأن المرشح المنافس كان خيارا مستبعدا.

تحليل ما خلصت إليه الدراسة من وجهة نظر علمية تعتمد على أن المدخلات مرتبطة بالمخرجات ارتباطا وثيقا في أي معادلة.

الرئيس مرسي، بإيعاز أو بلا إيعاز من جماعة الإخوان المسلمين قرر استعداء شرائح من المجتمع المصري تمثل كلا منها قوة مؤثرة على الأرض، وتتمتع برصيد كبير في ثقافة وضمير المصريين، وعندما يشعر هؤلاء بأن النظام السياسي الجديد يترصدهم، ويرميهم بلا حماية في طريق الإسلاميين المنفلتين، ويضعهم في مساحة تعبير ضيقة لم يألفوها، فمن الطبيعي أن يتشكل في إدراكهم أنهم في حالة حرب مع النظام، وعليهم استخدام كل أدواتهم للدفاع عن حقوقهم المهنية. حتى المحايدين انضموا لزملائهم دفاعا عنهم وعن المبدأ، مثلما يضرب عمال المناجم أو المصانع عن العمل للدفاع عن حقوقهم.

وأغلب الظن أنه لو أعيدت الدراسة مرة أخرى في هذا التوقيت لن ينال الرئيس مرسي من الإعلاميين النسبة الضئيلة التي تحصل عليها بعد أن اقتص من حقهم في الدستور واتهمهم أتباعه بالخيانة، ونبذوهم بأسوأ الألقاب علنا، في الميادين. ولكن الأكيد أنه لو كانت الدراسة أجريت في الصيف الماضي لما أتت النتيجة سلبية للرئيس على هذا النحو. حينها كان الإعلاميون منقسمين، ولكنهم فخورون، يمتلئون بالرضا لأنهم عبروا طريق الديمقراطية، حتى أولئك الذين لم يميلوا يوما إلى الإسلاميين، خاصة بعد أن استمعوا لمرشحهم الرئاسي يتعهد بأن الحرية الإعلامية مصانة، وأنه لن تغلق قناة أو صحيفة في عهده. ولكن الواقع أن مدينة الإنتاج الإعلامي حوصرت قبل أيام من قبل أتباع التيار الإسلامي وهم يرددون عبارات عن تطهير الإعلام، على الرغم من أن المستهدفين بالتطهير هم الإعلاميون الذين وثقوا في الوعود الانتخابية للرئيس، وبعض منهم كانت له مواقف ضد سياسات الرئيس السابق حسني مبارك أكثر وضوحا وشجاعة من بعض القيادات الإسلامية.

اليوم يظهر شاب في الإسكندرية معلقا بغضب بأنهم حاصروا مسجدا لأن إمامه دعا المصلين للتصويت بـ«نعم» للدستور، «فهذه خطبة سياسية وليست دينية، ألم يحاصر الإسلاميون مدينة الإنتاج الإعلامي في القاهرة؟ كل واحد يحاصر وسيلة الإعلام (بتاعة التاني)». هؤلاء الشباب تشكل لديهم كذلك إدراك مما يحصل في الشارع لأن وقتهم لا يسمح بجلوسهم أمام شاشات التلفزة.

التهمة الثانية التي لحقت التلفزيون أنه يصنع قيادات ونجوما ليست جديرة بالظهور مقارنة بالمخضرمين من المثقفين الذين أصبحوا في ظلهم.

الحقيقة أن هذا الشعور هو وليد غياب الصلح مع النفس ومع المجتمع، والكثير من الغرور الذي يجعل المثقف يزدري التنوع الثقافي والميول الجديدة. كلنا شاهدنا استقبال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في مقره الأممي لمواطنه الكوري الجنوبي صاحب الأغنية الأشهر في العالم «غانغام ستايل»، وكيف أدى معه بأريحية رقصته المبتكرة أمام الصحافيين، ولم ينس أن يعزز قيمة منجزه بقوله إنه لم يعد اليوم أشهر شخصية عالمية من كوريا الجنوبية.

لم يشعر مون بالضيق لأن مواطنا كوريا جنوبيا آخر تفوق، ونال شهرة واسعة بسبب أغنية شبابية؛ لأنه مؤمن - على طريقته - أن كلا مسخر لما خلق له.

قبل أن يقلق بعضنا من أن التلفزيون يشكل إدراك المتفرجين بإغرائهم عن عمد بالصورة والألوان ليستأثر باهتمامهم في جانب معين مغفلا جانبا آخر، قبل ذلك هناك إدراك أكثر خطورة يتشكل في أذهان القوى المجتمعية التي تدير فعليا الدولة المصرية اقتصاديا وثقافيا مفاده أن النظام السياسي يستعديها، وأنها تستفز يوميا لتدافع عن نفسها. هذه الصورة الذهنية الجديدة أشد خطورة من صورة التلفزيون؛ لأن المواطن المصري قد لا يعنيه كثيرا انحياز قناة تلفزيونية لأن الأمر لن يكلفه سوى ضغطة زر على الريموت كنترول، ولكنه لن يقبل بانحياز الرئيس ضد نصف شعبه؛ لأن زر التغيير بمثابة لغم.

[email protected]