في انتظار الشجاعة!

TT

الخلاف يفسد للود قضية، بل قضايا، كما اتضح من الأحداث المتتالية في العالم العربي. حجم التناحر والاستقطاب في المواقف والآراء سرعان ما ينقلب إلى طعن في الشرف والسمعة، والتكفير والتخوين. هناك أمثلة متزايدة مقلقة عن حجم الغضب الموجود في الشارع العربي سواء كان ظاهرا في الإعلام وعلى المنابر أو في الملاعب أو في الشوارع. اختفاء القنوات اللازمة للتنفيس عن هذا الغضب بات مسألة لا يمكن إغفالها.

غياب نهج الحوار من المدارس والمؤسسات التعليمية ولّد تصلبا في الرأي الواحد، واعتبار أي فكرة أخرى دخيلة وغريبة، وبالتالي شاذة، ولا بد من قمعها ومحاربتها، موجدة مناخا من التشكيك والتخوين لا حدود له. وكبر ونما هذا الأمر حتى تحول إلى ثقافة عامة ترفض «الآخر»، ونراها في مواقف مختلفة ومتعددة. وبالتالي عندما تظهر النماذج «المخيفة» لذلك في الإعلام الجديد من شتم وسب ولعن والتنكيل بالأعراق والطوائف والمذاهب والأصول لا يكون الأمر مدعاة للاستعجاب ولا الدهشة، ولكنه يكشف عورة مجتمعية خطيرة وآفة إنسانية فتاكة.

ولذلك يبدو أنه من الواضح اليوم أن التصارع المذهبي والطائفي والديني والمجتمعي والمناطقي المتأجج عربيا، مرده إلى غياب آداب وثقافة الحوار ومبدأ قبول الآخر بشكل حضاري وجميل. العرب بحاجة ماسة إلى أن يتصالحوا مع أنفسهم.. بحاجة ماسة لأن يحسنوا الظن بأنفسهم. أخرجوا اليهود من بلادهم (سواء بفعل فاعل أو بإرادتهم)، والآن مسلسل تهجير المسيحيين مستمر عبر ظهور الصوت الأرعن المتطرف المتنطع والمتشدد، وغير القابل للتفاهم ولا التعايش أبدا.

وقريبا سيكون العالم العربي بلا مسيحيين، وهذه المسألة باتت علاماتها واضحة، والموضوع ما هو إلا مجرد وقت ويتحقق، وسيكون الدور المقبل على الفرق والمذاهب الإسلامية نفسها لتستمر تنقية وتصنيف كل مخالف وكل مختلف بشكل مستمر ومتواصل. لا نهاية لهذا المسلسل متى ما بدأ وانطلق؛ فالنهم البشري بتصفية المخالف والمختلف مسألة تكررت عبر التاريخ والحضارات والأزمنة بأكثر من صورة، وهناك عشرات الأمثلة التي تؤكد ذلك بشكل جلي وواضح.

قدر العالم العربي ومصيره أن يكون مهدا للثقافات والحضارات والتنوع البشري، وبالتالي فرضية إمكانية «تنقيح» كل ما هو موجود ليكون على «شكل» واحد هي مسألة أقرب للسذاجة منها إلى الطرح الجاد والمقبول والمحترم، ولكن هذا الطرح موجود وأساسي ولا يمكن إغفاله ولا تناسيه.

سيكون «مع» الربيع العربي راكبو الموج ومدعو الدين ومروجو الفضيلة، ومن خلال هذه الشعارات تهدم مبادئ وتثار «إشاعات» الذعر والخوف والقلق والشك والرعب لتحدث مجتمعا «خانقا» مذعورا لا يمكن أن ينتج ولا يفكر ولا يحس بالطمأنينة ولا الأمان، هكذا تولد المجتمعات الهشة، وهكذا يتم التحكم فيها بصورة كاملة؛ لا يمكن أن يقابل طالب الحرية والكرامة والأمل بمن يشكك في دينه وقلبه وعقيدته لأسباب ساذجة.

ولكن هذه المطالب العظيمة يتم اختزالها الآن في مشاهد كاريكاتيرية تسيء إلى دين عظيم ومجتمعات عظيمة لصالح فئات تجهل الدين وسماحته وروحه، تسيّرها مجاميع نصف جاهلة. المجتمعات العربية بحاجة جادة لمكاشفة تامة تعالج فيها مكامن ومصادر التطرف والتنطع والتشدد وتفضحه وتواجهه، وفي مسألة لم تتم للآن ولم تتولد الشجاعة الكاملة حتى الآن لعمل ذلك، وكل الطرح الذي تم ما هو إلا طرح خجول وبأطراف مرتعشة، مما يجعل التشنج في الشارع العربي مسألة مستمرة حتى إشعار آخر يتم عنده حسم المسألة من جذورها بشجاعة غير مسبوقة وجرأة غير متوقعة.

[email protected]