لا تسل أين الهوى

TT

كان غازي القصيبي كاتبا متعددا وشاعرا قبل أي شيء. هام بالشعر مؤلفا وذواقة. وإذا صدق تقديري فإن أحب الشعراء إليه، المتنبي وإبراهيم ناجي، وله في الشاعر المصري مطالعة تجمع بين جمالياته المطبوعة وجماليات شاعر «الأطلال». وكانت حياة ناجي خاطفة مثل حياة علي محمود طه، ولا يدري أحد ماذا لو لم يبكر القدر عليهما.. فإن له سره وحكمته وأحكامه. أعود مرة ثانية إلى كتاب فارس يواكيم «حكايات الأغاني» (دار رياض الريس للنشر) إذ يروي أنه قبل أن تغني أم كلثوم «الأطلال» غنى محمد عبد الوهاب لناجي قصيدة «الخريف» ومطلعها:

أي سر فيك إني لست أدري

كل ما فيك من الأسرار يغري

كما كانت أم كلثوم قد غنت له «أنشودة مصر» ومطلعها:

أجل إن ذا يوم لمن يفتدي مصرا

فمصر هي المحراب والجنة الكبرى

عندما غنت أم كلثوم «الأطلال» كان ناجي قد غاب. واعتادت «السّت» أن تعدل فيما تغني من شعر، كما اعتادت أن تعطي رأيا قاطعا في الموسيقى. ولم يغلبها في ذلك إلا عبد الوهاب عندما أدخل «الغيتار» على الفرقة الشرقية في «انت عمري». وأما في تعديل الشعر فكانت تلجأ إلى شاعرها الأول، أحمد رامي. وعندما وجدت أن «الأطلال» تبدأ بـ«يا فؤادي رحم الله الهوى»، اعترضت بظرفها المعهود قائلة: «يعني أبدأ الأغنية بالتعازي؟». فتدخل رامي بشاعريته وجعل البيت المغنى:

يا فؤادي لا تسل أين الهوى

كان صرحا من خيال فهوى

وكتب ناجي:

أين من عيني حبيب ساحر

فيه نبل وجلال وحياء

فاستبدل رامي كلمة نبل بكلمة عز. فلما طرح فارس يواكيم الموضوع على محمد عبد الوهاب قال: «عز» ألطف في الغناء. حاول أن تلفظ «نبل». الباء الساكنة قبل اللام غير مريحة. ألم يكن الرجل تلميذ شوقي وصديق الأخطل الصغير؟ ويبدو أن أبيات «الأطلال» في الأغنية كلها من شعر إبراهيم ناجي، لكن ليست كلها من القصيدة نفسها.

امتدت حناجر كثيرة إلى جداول إبراهيم ناجي، في المغرب والمشرق إضافة إلى نجاة علي ومحرم فؤاد وسعاد محمد (لبنانية) في مصر. ومن أعذب ما غنته:

خلتني بالشوق استدني غدا

فغدا عندي كآباد طوال

كان الشعر المغنى إما يولد في القاهرة وفيها يغنى، وإما يولد خارجا وينقل إليها لكي يلحن ويؤدى بأصوات تراوح ما بين أم كلثوم وكارم محمود، أو بين ألحان عبد الوهاب ورياض السنباطي. لكنه زمن كانت القاهرة فيه حاضرة جميع الفنون: المسرح والسينما والموسيقى والغناء والفكاهة والقصيدة الرائعة «كالأطلال» أو «الطقطوقة» الظريفة مثل «دكتور الحقني». ظلت هي مصنع وموزع النجومية العربية إلى أن ظهر الرحابنة وفيروز في لبنان، ومسرح «شوشو» ومسرح عبد الحسين عبد الرضا في الكويت.