حكومة الإسلام السياسي

TT

في جلسة حوار جمعتني بمجموعة من الطلبة الأميركيين قدموا للمغرب في رحلة دراسية، أبدى أحد أولئك الطلبة الملاحظة التالية: في كل البلاد العربية التي عرفت حركات الانتفاض أو الربيع العربي نجد أن الذين وصلوا إلى مراكز القرار هم الإسلاميون. في تونس ائتلاف ثلاثي ولكن السلطة التنفيذية في يد حزب النهضة، وفي مصر حملت الثورة حزب الحرية والعدالة إلى رئاسة الدولة، ثم هذه السلطة التنفيذية في ملك «الإخوان المسلمين». وفي ليبيا يبدو أن السلطة الفعلية في يد الإسلاميين، وهنا في المغرب نجد رئاسة الحكومة وأغلبية الحقائب الوزارية في يد حزب العدالة والتنمية، وهو بطبيعة الحال حزب إسلامي. ثم إن الملاحظ (وهو من طلبة العلوم السياسية) أعقب الملاحظة بطرح السؤال التالي: هل يعني هذا كله - وربما ما سيحدث بعده في سوريا مثلا - أن الإسلام السياسي هو مستقبل العالم العربي؟

ملاحظة الطالب الأميركي حكم واقع، كما يقول المناطقة، والتساؤل الذي يبديه يحمل على التفكير (بغض النظر عما إذا كان يخفي قلقا أو يعبر عن تشكك في قدرة العالم العربي على القيام بنقلة طال انتظارها وكثر القول فيها، أو ربما نوعا من الشماتة...). وإذا ما نظرنا في واقع الأحداث في العالم العربي منذ الفعل الرمزي الذي أقدم عليه البوعزيزي في تلك المدينة شبه المنسية من الجنوب التونسي، إلى غاية ما نشاهده اليوم بكيفيات مختلفة في البلدان التي يشير إليها سؤال الطالب الأميركي، فإن تساؤل الطالب الأميركي يحملنا على طرح أسئلة كثيرة أحرى. أسئلة تدور كلها حول من يصح القول فيه إنه حكومة الإسلام السياسي (مع أني ما أزال أتمسك به بالتحفظ في استعمال نعت آخذه بحذر شديد، وأردده بحكم الانتشار لا الاقتناع بالوصف والدلالة). السؤال الأول: لماذا تمكنت الأحزاب الإسلامية من الوصول، بالفعل، إلى موقع السلطة التنفيذية فيما فشلت الأحزاب الأخرى (أنواعا مختلفة من الفشل على كل)؟ والسؤال الثاني يتعلق بواقع السلطة التنفيذية، حاليا، في الدول العربية السابقة الإشارة إليها. والسؤال الثالث يتصل بواقع الأحزاب الإسلامية في مواقع السلطة التنفيذية. والسؤال الرابع يتجه نحو المستقبل: هل تمتلك هذه الصورة أن تظل كذلك فترة من الزمان طويلة؟

لا يمكن تقديم جواب واحد عن السؤال الأول؛ إذ أن هناك فروقا نوعية بين واقع كل الأحزاب في تونس ومصر وليبيا والمغرب، فالشأن في حزب النهضة في تونس غيره في جماعة الإخوان المسلمين، والحال مغايرة بالكلية بالنسبة للحركات الإسلامية في ليبيا، والأمر بالنسبة لحزب العدالة والتنمية في المغرب مختلف اختلاف الحال بين الحظر السياسي - أصنافا متنوعة من الحظر - في تونس وليبيا ومصر، وبين الإباحة (حتى نقتبس من القاموس الفقهي مصطلحه). غير أن هنالك تشابها شديدا بين الأحزاب الإسلامية (السري منها والعلني) في البلاد المشار إليها، باستثناء ليبيا تحت حكم القذافي: التشابه فيما يتعلق بتغلغل الأحزاب الإسلامية في المجتمع المدني، ومن ثم اكتسابها أنصارا ومواقع في المجتمع مع تفاوت في القدرة على ذلك بطبيعة الحال؛ ففي مصر استطاعت جماعة الإخوان المسلمين أن تراكم تجربة ثمانية عقود كاملة، من جهة أولى، وأن تستفيد، من جهة ثانية، من تجربة الإقصاء والقمع القويين من ثورة كانت في جملة وقودها، والقصد بذلك الثورة - أو بالأحرى الانقلاب العسكري - التي حدثت في 23 يوليو (تموز) 1952. فاستطاعت الجماعة، مع القمع الشديد الذي لحقها تحت حكم العسكر في العهود الثلاثة عامة، وفي الفترة الناصرية خاصة، ومع حركات الانشقاق التي شهدتها انطلاقا من السجون المصرية (التكفير والهجرة، الجماعة، السلفيات الجهادية...)، استطاعت أن تحافظ على القوة التنظيمية وأن تكتسح المواقع، الواحد إثر الآخر، في المجتمع المدني، فتكون بالتالي القوة السياسية الثانية تنظيميا بعد الحزب الوطني، رغم كل الإمكانات التي كانت في حوزة هذا الحزب الأخير.

وفي تونس عمل حزب النهضة التونسي في توجهين؛ أحدهما علني، هو الجناح الموجود خارج تونس والمنتشر في مناطق شتى من أوروبا الغربية وليس حول الغنوشي في لندن فقط، واستطاع هذا الحزب الأخير أن يحفظ لنفسه موقعا عبر المنظمات الحقوقية وما في معناها. ورغم عدم الوضوح الكلي للصورة بالنسبة لليبيا، فنحن نميل إلى التقدير بأن عملا تنسيقيا مماثلا كان يتم بين مكونات المعارضة الليبية في بلدان المهجر، وبالتالي فقد كانت للعمل السياسي الليبي خطاطات تنظيمية ومواقع في تنظيمات مغايرة. ثم إن ناظما واحدا مشتركا ظل يجمع بين هذه الأحزاب الإسلامية السرية جميعها، وهو أن الأمر يتعلق ببلاد إسلامية، أهلها يمارسون تدينهم في اعتدال ورفض للغلو والتطرف، غير أن الحكم السياسي عمل (في البلاد الثلاثة المذكورة) على الدفع بالدين، في بلاد الإسلام، إلى منطقة الظل والهامش، في الوقت الذي استطاعت فيه التنظيمات الإسلامية أن تجعل من الدين الإسلامي قنوات لتمرير دعاوى الرفض والاحتجاج، وأن تجعل من «الاختيار الديني» بديلا للاختيارات الأخرى (الاشتراكية العربية، والقومية العربية، والرأسمالية المتوحشة، والماركسية المتوهمة..) وقنوات لرفع مطلب العدالة والكرامة ومحاربة الفساد... أيا كان الحكم الذي يكون في الإمكان إصداره على توظيف الدين والقدرة على تسخيره في الأمثلة المذكورة، فإن في واقع الإسلام في البلدان العربية التي سبقت الإشارة إليها ما يعزى إليه نصيب كبير من نجاح القوى الإسلامية في الوصول إلى امتلاك السلطة التنفيذية أنواعا من الامتلاك على كل حال. وهذه الحقيقة الأولية البسيطة ظلت، فيما يبدو، غائبة عن إدراك الكثير من القوى السياسية في الوطن العربي.

نرجئ القول في السؤال الثاني (الواقع الحالي للسلطة التنفيذية في دول «الربيع العربي»)، وكذا في السؤال الرابع (إمكانات تغير المشهد السياسي في المنظور المتوسط، والقريب) لنبدي بعض ملاحظات حول الحكومة الإسلامية حاليا. الظاهر أن الإسلاميين في تونس في حيرة من الأمر، بل إن فيما نسمعه ما يشي بوجود انقسام فعلي في الرأي بين من كانوا، في عهد بن علي خاصة، يقبعون في السجون التونسية من الإسلاميين وبين «المهجرين»، أي أولئك الذين كانوا من الإسلاميين موزعين في بلدان المهجر على نحو ما ألمحنا إلى ذلك. فالإسلاميون في حزب النهضة إذن موزعون بين «المساجين» و«المهجرين»، والسلفيون منفصلون ومعترضون على كل ما يقوله أو يقرره النهضويون. ولسنا نعرف للصورة وضوحا في ليبيا وإن كان الانتهاء إلى تكوين حكومة قد أسهم في تهدئة الأوضاع، غير أن نارا لا تزال ثاوية تحت الرماد، وما ينتهي من أحاديث العقلاء في بلد عمر المختار ليس البتة مطمئنا. وأما في مصر (والحديث عن مصر ذو شجون، فهو ينبئ عن العالم العربي برمته لأسباب بينة بذاتها) فإن ما يبدو من انتصار للحرية والعدالة ولمكتب إرشاد «الإخوان المسلمين» في التالي، إنما هو من قبيل الظاهر الذي يخفي وراءه أمرا عظيما، وما نرى أن هذا العداء الذي سلك طريقه إلى الظهور بين «الإخوان» وبين السلفية من شأنه أن يسهل الأحوال السياسية. وأغلب الظن عندي أن مصر ستقبل على عهد جديد، عهد ينقل بلد سعد زغلول وأحمد لطفي السيد إلى عصر الجمهورية المصرية الثالثة.