«ديوان» شعر مع أمين معلوف

TT

أواخر السبعينات، كنا نذهب نهاية كل أسبوع، إلى بلدة فرنسية ما، في جوار باريس. ونون الجمع هنا، تعني أمين معلوف وعائلته والداعي لكم بالصحة والسعادة، وعائلته. وغالبا كنا نقضي عطلة الأسبوع عند أمين في ريف مدينة شارتر، حيث استأجر «منزلا»، لا يشبه إلا سيارته في بيروت.

أمتع ما في العطلات كانت رفقة أمين، الذي لا يفارقه «ترانزستور» ضخم، أكبر من المذياع العادي، ولا يشبه إلا منزله في شارتر وسيارته في بيروت. وذات مرة جاءه أقرباء من لبنان، فاقترح أن نبتعد في الرحلة الأسبوعية إلى مدينة «أونفلور»، القريبة من ميناء الهافر التاريخي. أما هي فمرفأ صغير ساحر، مليء بالزوارق الصغيرة والشراعية والملونة، خلده كبار الرسامين في ما عرف بـ«مدرسة أونفلور» في الفن الانطباعي.

نزلنا، كعادة تلك الأيام، في أحد فنادق المدينة المحرومة من النجوم، إلا واحدة تؤكد وجود حمامات نظيفة. ونون الجمع هنا تجمع إلينا أمين وعائلته وأقرباءه والترانزيستور الذي لا يشبهه إلا منزل أمين في شارتر وسيارته في بيروت. نسيت أن أذكر تفصيلا بسيطا، وهو أن سيارة أمين في فرنسا لم تكن أفضل من سيارته في بيروت إلا باللون. كان محددا وواضحا، لم تقو عليه الشمس ولا حذفته الأمطار، ولا هو غنى للزمن.

في الصباح المشمس والجميل، قمنا إلى الموعد مع أونفلور. ميناؤها المرسوم بالزوارق المترقرقة في المياه، ومقاهيها التي تقدم لها أحواض الزهر، وصخورها الحادة النازلة في البحر كالسيوف. من أجل أن تكتمل الصورة، مر في المقهى شاب يبيع، بنفسه، ديوان شعره. لا يملك طباعته فكتبه على أوراق مقواة، وزين «الديوان» برسوم من إبداعه، وبدا الشاب، في ملبسه وشعره الطويل ونحوله، كأنه خارج من القرن الثاني عشر، يوم تأسيس المدينة بهمة ورعاية ريتشارد الثالث.

طلب مبلغا غير قليل علينا. لكن هل يتحمل قلبك أن ترد شاعرا ورساما من القرن الثاني عشر، يبيع ديوانه بنفسه؟ رق الشعر ورق الأدب ورق القلب. اشتريت «الديوان» الفالتة أوراقه من دون أن أتصفحه خوف إهانة الشاعر الرسام. لم يمر بالمقهى في اليوم التالي ولم نره، ولعله رآنا.

عندما عدنا إلى باريس بدأت أتصفح الديوان متلهفا. تبين أن القصائد منقولة من أي شاعر واللوحات منسوخة عن أي رسام. وشيء آخر: اسم الشاعر مأخوذ من اسم نقيب صيادي الأسماك في المدينة. لا يهم. الميناء كان هو الديوان واللوحة.