لا تنسوا أن القاهرة هي مصر

TT

لست أشعر بالارتياح لفكرة أن يكون عملنا جميعا هو الهجوم الحاد المباشر الدائم على القيادة السياسية في مصر. ولا أشعر بالارتياح أيضا لفكرة أن نتوقف عن ذلك. هناك طريق ثالث لا بد من البحث عنه والتعرف على ملامحه ومنحنياته ومنعطفاته ومفارقه. إنها مشكلة البشر القديمة في الحواديت الشعبية، حتمية التعرف على سكة السلامة، وبكلمة السلامة أقصد سلامة الناس وسلامة الأرض التي يعيشون عليها وهو ما لن يحدث إلا بالمحاولة الصادقة للحصول على الفكرة الصحيحة. وبكلمة الصحيحة أعني تلك الفكرة التي تقيم بيننا وبين أنفسنا، وبيننا وبين العالم كله جسور التعاون والمودة والمحبة، ربما تبدو كلماتي غريبة في هذا الجو المشحون بالغضب والكراهية، غير أني أثق في قوة الكلمات التي يقصد بها الخير، وقدرتها على اختراق العقول والقلوب التي لم تغلق أبوابها بعد.

لا بد أن يخصص كل منا وقتا للتفكير وإلا ضاع كل وقته المخصص لمعيشته. لا بد من رصد الواقع كما هو وليس كما نتمناه أو نخشاه. في الأيام القليلة الماضية عدت إلى مراجعة الثورة الفرنسية مراجعة سريعة (الجزء الأخير من «قصة الحضارة» ول ديورانت) فاستوقفت نظري جملة غريبة (لم تكن فرنسا هي التي أسقطت لويس السادس عشر، بل باريس) ترى من أسقط الرئيس السابق مبارك، هل هي مصر أم القاهرة؟ وهذه المحافظة الشهيرة التي تسمى القاهرة التي صوتت بـ«لا» لمشروع الدستور، هل هي مصر؟

علمتني الأيام أن الناس تفكر بألسنتها، هي تعلن بهذه الألسنة عن حقيقة وواقع ما تفكر فيه. هل ترى الفلاح المصري يقول لصاحبه إنه مسافر إلى القاهرة، أم إلى مصر؟ وفي محطات الميكروباصات والتاكسيات في كل مدن مصر ومراكزها، ألا تلاحظ أن كل عمال المواقف ينادون: اللي رايح مصر.. مصر.. مصر.

أليس من الغريب أن تكون محطة القطار النهائية في الإسكندرية اسمها محطة مصر. وعندما تقول الأغنية ومن قبلها المصطلح الشعبي «أصله ما عداش على مصر» وهي الجملة التي يصف بها سكان الأقاليم كل من يتسم سلوكه بالغلظة والجلافة، وفي أغنية شعبية قديمة يقول المغني «الله يجازي الليل، فكرني بالأحباب، يا جاي من مصر هات لي، من ترابها حجاب» هو لا يطلب الحجاب من القاهرة بل من أرض مصر كلها.. هذا هو الحجاب الذي يحميه من الخطر. مصر إذن ليست العاصمة فقط بل هي المكان الذي يتسم بالذوق الرفيع والسلوك الراقي، وبالتالي هي القادرة على اتخاذ القرار الصحيح. القاهرة هو الاسم الرسمي الذي اختاره لها بانيها، والذي نصحه به العرافون، أما ساكنوها فقد اختاروا اسما آخر لها وهو مصر. هذا هو ما يجب أن نفكر فيه ونحن نحسب نتيجة الاستفتاء، فلتقل الجداول والأوراق واللجان ما تقول، ولنعرض من الأرقام والرسوم البيانية ما نشاء، ولكن علينا أن ننظر إلى ما وراء الأرقام الصماء، عندها لا مفر من الاعتراف بأن مصر قالت لا لمسودة الدستور حتى لو قالت الأوراق شيئا آخر.

هذا الرفض أو القبول في تصوري لا يعود لوجود مواد ترى الناس أنها خاطئة أو صحيحة في الدستور، ففي شعب تفتك به الأمية بنسبة لم يعد العالم المتحضر يعرفها، من الخطأ تصور ذلك، وربما من البلاهة أيضا. هذا الجو العام المشحون بالغضب والكراهية والمرارة والإحباط والعجز عن رؤية منفذ إلى سكة السلامة، ليس ملائما لاتخاذ قرار هادئ أو صحيح من الفرد أو الجماعة بشأن أي شيء. على ضوء ذلك أرى أنه حتى التصويت بـ«لا»، لا يمثل رفضا للدستور أو مواده، بل هو رفض لكل ما يعاني منه البشر، هو رفض للواقع وللأيام، هو رفض للحكم وربما لمعارضته أيضا، هو في النهاية صيحة ألم وصرخة استغاثة أطلقها المصريون. هذا الاستفتاء يثبت شيئا واحدا هو أن المصريين يتألمون بشدة هذه الأيام.

في أثناء التقدم السريع لأي قوات عسكرية في أي جبهة، يحدث أن موقعا صغيرا معزولا يبدي مقاومة شديدة، وهنا يكون القرار ليس بالتوقف عنده ومواصلة القتال ضده، بل محاصرته بقوات كافية وقادرة، ثم مواصلة الهجوم على الهدف الأساسي. التوقف طويلا عند موقع الدستور ومواصلة القتال والدفاع عنه أو الهجوم عليه تنتج عنه خسائر فادحة وتمنع التقدم لتحقيق الهدف الأصلي وهو إزالة مصادر الوجع عند الشعب المصري. علينا أن نحاصر الدستور بخيره وشره في مكانه وأن نتوقف عن الهجوم عليه أو الدفاع عنه، وأن نتحرك لمواصلة تقدمنا، أو حتى تأخرنا، المهم حقا هو أن نتحرك في المكان وأن نغادر هذه اللحظة المؤلمة بأقل الخسائر. يعني ألا نندفع لإصدار قوانين جديدة الهدف منها الفتك ببعضنا البعض.

أنا أرى أن يقسم السادة أعضاء مجلس النواب المقبلون، قسما يتعهدون فيه بعدم إصدار قوانين جديدة، أنا أزعم أن لدينا ترسانة من القوانين تكفي لحكم عدة دول وعدة شعوب وقيادتها بكفاءة عالية في أي اتجاه تشاء، لدينا قوانين اشتراكية ورأسمالية في الوقت ذاته، وقوانين ملتزمة بالشريعة وخارجة عنها، لدينا قوانين تدافع عن السلام مع إسرائيل، وقوانين أخرى تذهب بك إلى الجحيم عندما تصدق ذلك. لدينا قوانين تعاقبك عندما ترتكب فعلا معينا في فصل الشتاء، وتعطيك وساما عندما تمارسه في الربيع، الربيع العربي الذي تحول في لحظات إلى صيف حرارته مقبلة من الجحيم رأسا. لدينا قوانين تعطيك مساحات شاسعة من الأرض، وقوانين أخرى تبيح سحبها منك ووضعك خلف القضبان. لدينا قوانين تتيح لك أن تكسب أموالا هائلة الحجم، وهي نفس الأموال التي سيسألك عنها وكيل النيابة: من أين لك هذا.

لدينا قوانين نستطيع أن نستولي بها على ممتلكات البشر، غير أنها تتضمن مواد تتيح إعادتها لهم مع الشكر.. أنا أتحدى أي مخلوق على ظهر الأرض أن يثبت لي أن المصريين في حاجة إلى قوانين جديدة. ولعل أفضل ما يمكن أن يتفرغ له أعضاء مجلس النواب المقبل، هو تشكيل لجنة عليا تكون مهمتها مراجعة ترسانة القوانين المصرية وتطهيرها بحيث لا يبقى منها إلا تلك التي نكون في حاجة إليها. أنا واثق أننا إذا عملنا بجد وهمة فمن الممكن أن ننتهي من ذلك في غضون مائة عام فقط على أكثر تقدير.

عندما ترتفع درجة حرارة مريض ما إلى حد الهلوسة، يهتم الطبيب في البداية بأمر واحد هو خفض درجة حرارته بكل الوسائل التي تعلمها، بعدها يبدأ في علاجه من العلة الأصلية التي تسببت في ذلك. هذا هو حالنا الآن، نحن نمر بمرحلة هلوسة خطرة للغاية، وصلت بنا إلى الدرجة التي تجعلنا نحاصر القضاة ووكلاء النيابة ونمنعهم من ممارسة عملهم. إذا سمحنا لدرجة حرارة المريض - اللي هو احنا - بالارتفاع أكثر من ذلك ولو لدرجة واحدة، فستتحول هذه الهلوسة إلى فظائع، لا نحن ولا المنطقة في حاجة إليها.