أيام فاتت

TT

استفاق العراق من سباته في العشرينات عندما حاول الإنجليز عصرنته، التي شملت برامج دراسية جديدة وتعليم البنات ونشر العلوم الحديثة. كان من ذلك نشر نظرية التطور لداروين. شغف البعض بها. روى لي المفكر السياسي الكردي عادل مراد أن من شغف بها كان العطار زرادشت في نواحي بنجوين على حدود إيران. وفد إلى كردستان من أواسط آسيا، وفتح دكانا له سرعان ما تحول إلى وكر للمثقفين الأحرار من الكرد، ككريم أحمد وحبيب محمد كريم وفاروق ملا مصطفى وسواهم. وأصبح دكانه كهفا للمناقشات العلمية. تأثر السيد زرادشت بنظرية التطور وأصل الإنسان، ولكنه توصل إلى أن الكرد انحدروا من فصيلة الصخول (الماعز). ما برهانك يا سيد زرادشت؟ أشار فورا إلى هذا الجبل الشامخ العمودي أمامه؛ جبل كلالة، وقال لا أحد يستطيع تسلق هذا الجبل غير الصخول والكرد، مما يدل على أنهم من سلالة الصخول!

وفي بغداد، انطلق كردي آخر؛ الشاعر والفيلسوف الكبير جميل صدقي الزهاوي، للترويج لهذه النظرية، وكتب مقالات كثيرة عنها. سمع بذلك أحد الباعة الشعبيين فقصده في مقهاه المعروف باسمه (مقهى الزهاوي). أمسك به، وقال: «آثم! تقول إن أصل الإنسان من القردة. (يعني أنا أبويه كان قرد!)». فما كان من الشاعر غير أن أمسك بذقنه ولحيته المنتفة ووجهه المتغضن القبيح، وقال: «لا ابني لا! أنا ما قلت أبوك كان قرد. أنا أقول إن أبويه كان قرد».

بيد أن من أظرف تقليعاته كانت نظريته عن الجاذبية، قال: ليس هناك أي جذب، بل دفع. فالأجسام لا تسقط على الأرض بقوة جاذبية الأرض، وإنما بقوة دفع الأجرام السماوية الأخرى. تحمس للموضوع إلى حد نشر كتيب صغير يدافع فيه عن فكرته!

ومن الشخصيات التي شاركت في هواية العلوم إبراهيم عرب، القهوجي المشهور في محلة الكرنتينة. عرفت عنه شتى التقليعات العلمية. ما إن زودوا مقهاه وبيته المجاور بالقوة الكهربائية حتى تكهن بأسرارها؛ فقال إنه من الممكن لأي إنسان أن يحصل على الكهرباء بغلي الماء بالملح والخل في طنجرة كبيرة، ثم ربط الطنجرة بسلك وغطاء الطنجرة بالسلك الآخر. فتحصل على الدورة الكهربائية. يظهر أنه حاول فعلا تحقيق ذلك وفشل. فعمد إلى فكرة عملية أفضل، وهي أن ربط المقهى سرا بأسلاك إنارة الشارع، فحصل على ما يريد. ولكن شركة الكهرباء لاحظت بعد أشهر أنه لم يدفع أي شيء لها عن إنارة المقهى. تحرت عن الأمر، فاكتشفت سرقة الكهرباء من أسلاك إنارة الشارع، فأحالته للمحاكم التي لم تملك غير أن تحكم عليه بالسجن لسنتين. ويظهر أنه لم يغامر بنظرياته العلمية بعد ذلك. وكانت أياما وفاتت، أيام التفكير العلمي في بغداد.