سوريا وفرصة الحل السياسي!

TT

ما جرى تداوله عن زيارة بوتين لأنقرة وتوصل الجانبين إلى نقاط مشتركة بشأن المستقبل السوري، وما رشح عن توافق بين كلينتون ولافروف في اجتماعهما الأخير مع الأخضر الإبراهيمي لتفعيل خريطة جنيف حول سوريا، ثم الاستغاثة التي أطلقتها الجامعة العربية لإنقاذ سوريا قبل فوات الأوان، وأخيرا دعوة فاروق الشرع لتسوية تاريخية وتشكيل حكومة وحدة وطنية بصلاحيات واسعة.. كل ما سبق إشارات متواترة لحقيقة واحدة، هي وصول العنف المفرط إلى طريق مسدودة وفشل الخيار الأمني والعسكري في سحق الثورة بعد عشرين شهرا من تجريب مختلف الوسائل والخطط الحربية، ولنقل في وقف التقدم المتنامي الذي تحرزه المعارضة المسلحة في غالبية المناطق السورية وأهمها العاصمة دمشق، الأمر الذي فتح الباب على مبادرات لحلول سياسية تطرح على عجل، كمحاولة ربما لمد طوق نجاة لنظام يغرق، وربما لأن كأس الحرج الأخلاقي قد فاضت من صور الخراب وأعداد الضحايا والمنكوبين واحتمال استخدام أسلحة أكثر فتكا، وربما لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مجتمع ودولة أوصلهما العنف المفرط والعشوائي إلى مشارف التفكك والهلاك.

غير أن نجاح أي مبادرة سياسية يتوقف، وببساطة، على واحد من احتمالين، إما قبول الأطراف الداخلية المعنية بها قبولا جديا يضعها موضع التنفيذ، وإما أن تتكفل قوى خارجية بإكراه أطراف الصراع على ذلك عبر استخدام مختلف الضغوط، السياسية والاقتصادية، دون استبعاد القوة العسكرية أو التلويح بها.

والحال، لا يدل المشهد السوري، حتى اللحظة، على وجود فرصة جدية لنجاح أحد الاحتمالين.

فعلى المستوى الأول، صحيح أن الإنهاك المتزايد للقوى العسكرية والأمنية، واتساع المساحات الخارجة عن السيطرة، وتواتر حركة الانشقاقات، وتفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، وتصاعد حدة الضغوط العربية والدولية، مهد لتبلور قوى من داخل تركيبة النظام تزداد قناعة بعجز الحل الحربي عن وقف التدهور وبضرورة المعالجة السياسية، وصحيح أن المرونة الروسية لم تأت من سماء صافية، وأن مبادرة الشرع لم تكن من بنات أفكاره وربما جرت بالتنسيق التام مع النواة السياسية والأمنية المقررة، لكن الصحيح أيضا أن ثمة أطرافا فاعلة في النظام ليست بوارد التراجع خطوة واحدة إلى الوراء، وخيارها الوحيد هو تصعيد وتيرة العنف حتى سحق ما تعتبره مجموعات مسلحة متآمرة، ليس فقط بسبب بنيتها المعجونة بمنطق القهر والغلبة، بل لإدراكها أنها وصلت إلى نقطة اللاعودة، وتخوض، بعد ما ارتكبته، معركة حياة أو موت، خاصة أولئك الذين أوغلوا في ارتكاباتهم ويخشون ساعة الحساب والعقاب، وغالبيتهم تمت تعبئتهم وحشدهم حديثا، وأطلقت أياديهم لإظهار أشرس ما لديهم من فتك وتنكيل، عساهم ينجحون في إعادة مناخات الرعب والإرهاب لتخضع المجتمع، وما يعزز مواقف هذه الأطراف إدراكها لمخاطر السير في الطريق السياسي، لأنه برأيهم اعتراف ضمني بالهزيمة، يطيح ما تبقى من مظاهر هيبة السلطة وقوتها، ويفضي إلى تفكيك بطانتها وتعديل سريع في توازن القوى لمصلحة المعارضة.

والقصد أن القرار السلطوي بالسير في طريق الحل السياسي، لم يعد ملكا لجهة سلطوية واحدة، بل تحكمه ارتباطات ومصالح متداخلة ومعقدة، زادها تعقيدا طول أمد الصراع وما كرسه العنف المفرط من نتائج مؤلمة يصعب تجاوزها راهنا، لكن هذا لا يمنع النظام من إبداء مرونة وقبول شكلي لبعض المبادرات كي لا يثير امتعاض الحلفاء المشاركين في طرحها، مراهنا على رفض المعارضة لها، وعلى توظيف ما يمتلكه من خبرات لتمييع ما يعرض عليه، وإفراغه من محتواها بإغراقه في التفاصيل والاشتراطات، والغرض دائما كسب الوقت والرهان على مزيد من التوغل في العنف لتغيير المشهد وتحسين الموقع والأوراق التفاوضية.

وفي الجهة المقابلة، يصعب على المعارضة السورية، عموما، قبول أي حل أو مبادرة سياسية لا تتفق مع مطلبها في إحداث تغيير جذري، وتاليا أن ترضى بتسوية لا تشترط إزاحة رموز النظام ومحاسبة المرتكبين، أو بما يشاع عن حكومة انتقالية ذات صلاحيات واسعة تقودها إحدى الشخصيات المعارضة، ولعل الرفض الأشد سوف يأتي من الجماعات السياسية والعسكرية الموجودة على الأرض، وهي الأكثر تضحية وتأثيرا وصاحبة القرار الحاسم في إدارة الصراع ورسم مساراته.

وإذ نعترف بتعدد الجماعات الميدانية المعارضة وتبعثرها وتنوع منابتها ومواقفها، وتاليا تفاوت درجات استعدادها للتعاطي مع الحلول السياسية، إلا أنها تبقى محكومة موضوعيا، في حال استمرار الاستعصاء القائم وعجزها عن تحويل تقدمها التكتيكي إلى انتصار حاسم، بضرورة التنسيق مع الغطاء السياسي الذي يوفره «الائتلاف الوطني» بعد أن نال الاعتراف العربي والدولي، كما بمصادر الدعم المادي واللوجيستي، والأهم بمزاج شعبي يعاني الأمرين ويميل نحو أولوية وقف العنف ومنع الانزلاق إلى حرب أهلية شاملة تزيد من الضحايا والخراب، تدعمه فئات من أبناء الطبقة الوسطى والتجار وشرائح من الأقليات، وهؤلاء لا يريدون رؤية بلدهم محطما أو مقسما إلى كانتونات طائفية يعادي بعضها بعضا، وغالبا ما يجاهرون برغبتهم في حصول انتقال سلمي للسلطة ترعاه إرادة عربية أو دولية.

أما الحديث عن الاحتمال الثاني، فيقودنا إلى التساؤل عن القدرة الحقيقية للقوى الخارجية في التأثير على الطرفين المتصارعين وفرض حل سياسي عليهما، وكلاهما لا يزال يعتقد إمكانية تحقيق انتصار كاسح، ويخوض أحدهما معركته كمعركة وجود وإفناء للآخر، ألا يتطلب نجاح هذا الاحتمال عندئذ وصول طرفي الصراع مثلا إلى حالة من الضعف والإنهاك ترغمهم على قبول ما يعرض عليهم، أو إلى قناعة بأن استمرار حربهم صار أمرا عبثيا، أو ربما يخلقه توافق دولي جدي تمليه مصلحة مشتركة غالبا، بسبب امتداد الصراع إلى بلدان الجوار عبر تداخل المكونات الإثنية والطائفية وتهديده استقرار المنطقة والأمن الإسرائيلي، الأمر الذي قد ينعكس بإرادة أممية حازمة لإخماد هذه البؤرة من التوتر، وفرض الحل السياسي فرضا على الجميع.