بكم سعر البرميل؟!

TT

هل يمكن القول: إنه عام التفاؤل في السعودية، رغم كل ما يحيط بالمنطقة من مخاطر أفرزتها حالة «الربيع العربي» الذي يبدو أن أزهاره السياسية في طريقها للذبول بسبب شح «الاقتصاد»، الجواب: نعم، كبيرة بحجم ما يمكن أن تحدثه مفاعيل التنمية والازدهار الاقتصادي التي بدت ملامحها مع هذه الميزانية التاريخية غير المسبوقة ليس في حجمها، وإنما في الظروف المحيطة بها، وتحديدا المناخ السياسي الذي ألقى بظلاله على الاقتصاد والحراك الاجتماعي والمزاج الشعبي وحتى الخطابات الدينية، الكل أصبح مسيسا من موقعه ولكن بشكل غير صحي حيث تنمو الأوهام والشعارات والإشاعات، وبالطبع كل ذلك يمكن تحويله إلى تكتلات هشة على مواقع الإعلام الجديد التي تحولت إلى أرض خصبة لتكاثر إفرازات المشهد السياسي المأزوم.

في حديث مع رجل أعمال في قطاع المقاولات حول الميزانية التي اعتبرها مقدمة لعهد سعودي اقتصادي جديد، انزلق الحديث حول ردود الفعل في الإنترنت وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وهنا كان الاستياء باديا على حديثه، لا سيما فيما يخص المقارنات بين السعودية وبعض دول الخليج مع الفوارق الضخمة على مستوى الإمكانات وحتى حجم الإنفاق على المشاريع أو سيطرة الحكومات على قطاع الاستثمار الرئيسي، وهي أرقام تصب في صالح السعودية عكس ما يقال بشكل شخصي وانطباعي لا علاقة له بالاقتصاد من قريب أو بعيد. وأي قراءة ولو بشكل سطحي للأرقام الاقتصادية الموثقة حول الناتج القومي وحجم الإنفاق على المشاريع وتقدير السوق وجاذبيتها ستظهر مدى التضليل الذي يمارس عن قصد في لعبة المقارنة تلك (على سبيل المثال يوفر موقع CAI خدمة رائعة وهي كتاب الحقائق عن العالم the world factbook، بحيث تستطيع أن تعرف أرقام الناتج المحلي وحجم الإقراض والائتمان المحلي والقيم السوقية ومعدل النمو والصادرات والواردات وكل التفاصيل الدقيقة وتقارنها بأي بلد في العالم).

على مستوى الميزانية يمكن القول: إنها أصيبت في ظل هذا المناخ الملوث سياسيا بداء التسييس، وهي نتيجة طبيعة لانعكاسات ما بعد الربيع العربي والثورات، والتي جرت كل مناحي الحياة إلى ملعب السياسة، بعد أن كنا منذ منتصف السبعينات وبروز تيارات الإسلام السياسي عادة ما يتم اعتراض مشاريع التنمية والاقتصاد بعراقيل التشدد الديني أو حتى المواقف التي صنعها آنذاك رموز الإسلام السياسي، والآن اختلف الحال فأصبح هناك حالة من التسييس ليس للاقتصاد فحسب بل حتى للخطاب الديني وشمل هذا التسييس حتى أكثر التيارات تصلبا واستعصاء على التغيير وهو التيار السلفي وتلك قصة أخرى.

الغريب في شأن الميزانية السعودية أن لا تقرأ في حدودها الاقتصادية المفتوحة على كل الاتجاهات في التنمية والاستثمار والبنى التحتية ومشاريع الخدمات وحتى تحول السعودية إلى سوق أكثر إغراء للاستثمارات الخارجية… إلخ، وأن يستبدل ذلك كله بحديث الشعارات السياسية وذلك عبر خنق دلالات الميزانية التاريخية غير المسبوقة في أنبوب السياسة لتذكرنا بتراث هائل ضخه «عرب الماء» كما كان يصف الثوريون من الدول غير النفطية أنفسهم في مراحل التأزم منذ بدايات اكتشاف النفط وحتى حرب الخليج.

هذا التراث الثوري الذي كان يرى في النفط «نقمة» يستعاد الآن لكن ليس كخطاب خارجي لا يرى في دول الخليج سوى براميل من البترول يملكها أهل الصحراء، وإنما كخطاب للأسف من الداخل تطرحه شخصيات رمزية ونخب في فمها ماء من حالة الاستقرار التي نأت بدول الخليج عن مهب عواصف «الربيع العربي» الذي كان يؤمل هؤلاء أن يواصل سيره فيكتسح هذه الدول، والمفارقة أن دول الربيع العربي بما أفرزته من قوى سياسية جديدة وعلى رأسها «الإخوان» رأس الحربة في الإسلام السياسي التيار العريض والمهيمن على الواقع الاجتماعي لا تتحدث عن الاقتصاد كما أن معارضيها من القوى المدنية لا يتحدثون عنه أيضا، لكن الجميع يمارس اللعب بالمفرقعات السياسية هروبا من سؤال الاقتصاد الذي لا يعترف سوى بالأرقام، هذا الهروب تمارسه إيران الدولة النفطية التي تستغل جزءا كبيرا من عائداتها في تصدير ثورتها ويمارسه العراق وفق محاصصته الطائفية وتقع فيه دول أفريقية نفطية تتعامل معه على طريقة الإتاوة وولاءات العصابات أو حتى ولاء القبيلة في شكله الضيق.

الأرقام وحدها لا تكذب، وهي تقول لنا إن السعودية تبدأ مرحلة جديدة غير مسبوقة في تطوير البنى التحتية لها عبر الاستثمار في قطاعات الصحة والتعليم والمياه والنقل، لكنها قبل ذلك تستثمر في قطاعاتها النفطية وهذا ما تختلف به عن باقي دول الخليج وحتى الدول النفطية التي تتعامل مع النفط على طريقة النهر الجاري الذي لا ينضب، فالأرقام تقول لنا إن حجم الإنفاق على تطوير الصناعة النفطية في السعودية يوازي ما تفعله باقي الدول النفطية مجتمعة، وهذا يعني أن الرياض تعمل ثروتها ومكانتها لتصبح أكبر منتج للنفط وبالتالي أكبر عامل جذب للشركات والاستثمارات الأجنبية، بل يعتقد الخبراء أن هذه الميزانية التاريخية ستساهم بشكل واضح في الانتعاش من الأزمة الاقتصادية العالمية، فأطراف التفاوض مع السعودية تشمل روسيا والصين وكوريا ودولا جديدة لا شك أن الدخول معها في قطاعات جديدة غير قطاع التسليح التقليدي سيساهم في وضع المملكة كطرف مؤثر في سياسات تلك البلاد تجاه القضايا الأساسية.

على المستوى الاجتماعي ورغم كل موجات الإحباط التي يسوقها المائيون وارثو الخطابات الثورية ضد النفط، فإن تركيز الميزانية على قطاع التعليم والصحة يتم ترجمته في علم الاجتماع السياسي بأنه أسهل الطرق لشراء السلم الاجتماعي لا سيما إذا ترافق ذلك مع تمويلات كبيرة في مجالات الرعاية الاجتماعية وإعادة التأهيل، ويكفي أن بقاء برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث بسبب معطيات الميزانية في قطاع التعليم سيساهم في توسيع المجال لدخول كوادر نوعية لسوق العمل، لكن الأهم بعيدا عن هذا الهدف الاقتصادي فإن هذه المجموعات المبتعثة جاءت بوعي جديد ومختلف أفرزت لنا طبقة جديدة من الشباب لا تخطئ العين ملامحها، لك أن تتخيل أن برامج الـ«يوتيوب» الدورية التي يبثها شباب سعوديون هواة يفوق المائة وهو رقم متفرد إذا ما قورن بباقي الدول العربية.

السعودية وفقا للميزانية التاريخية تتحول ليس إلى ورشة عمل تنموية كبيرة فحسب؛ بل إلى سوق ضخمة لجذب الاستثمارات وذلك لأسباب موضوعية يجب أن تدعونا للتفاؤل والاعتزاز، فالمساحة الجغرافية والمناخ الآمن للاستثمار والناتج المحلي الذي يفوق الدول المنتجة للنفط والإنفاق على البنى التحتية والنقل والتعدين والمنشآت النفطية ودخول شركات أجنبية رائدة في مجال المقاولات والتصنيع والنقلة النوعية التي ساهمت فيها هيئة المدن السعودية إضافة إلى أن السعودية تتميز عن باقي الدول الخليجية ومنها الإمارات وقطر بأنها تنتج الطاقة الأرخص وبرسوم أقل وباتفاقيات ضرائب مذهلة إضافة إلى ميزة تكاد تتفرد بها وهي سهولة تحرك رؤوس الأموال واستقرار العملة والأدوات التمويلية المغرية بسبب انخفاض الفوائد.. كل هذه المعطيات التي تحمل في تضاعيفها تفاصيل وأرقاما قياسية تقول لنا بوضوح إننا مقبلون على العصر الذهبي للاقتصاد متى ما تفاءل السعوديون وعملوا على استكمال النواقص والإشكالات التي تخص مكافحة الفساد وتطوير النظام القضائي واستكمال مشاريع الحكومة الإلكترونية التي تم قطع أشواط جيدة فيها، بالطبع هذه الميزات الهائلة غائبة عن الإعلام بسبب غياب خطاب تسويقي أو حتى توعوي بما يتم إنجازه وهذا الالتباس مرده إلى إشكالية سياسية عربية بسبب اختلاف أنظمة الحكم فيها وبالتالي عدم التفريق بين سياق الدولة بما تملكه من مؤسسات مدنية واقتصادية ومالية ومنجز على الأرض وبين مفهوم النظام الحاكم الذي يتقاطع أيضا مع مفهوم الحكومة بما تعنيه مؤسسات الدولة الأساسية.

في اعتقادي ما يحتاجه السعوديون بجانب هذه الميزانية التاريخية هو الثقة والوقت، الثقة تعني التحول إلى محاولة الاستفادة من الفرص الهائلة التي يفترض على ميزانية كهذه أن تساهم فيها على مستوى توفير فرص وظيفية وتحسين مناخات الاستثمار والتكسب والمشاريع التي تقرأ بشكل جيد السوق الجديدة، كما أن عامل الوقت مهم جدا لكي تحدث هذه الميزانية تحولا على مستوى المعيشة والرفاهية للمواطن وهنا ربما يأتي دور وزارة العمل التي سيكون عليها عبء كبير في طرح برامج تأهيلية ورسم خطوط استراتيجية بالتأثير على قطاع التعليم ومخرجاته والتدريب لإنتاج كوادر منافسة وليست مفروضة. فالتأثير على رأس المال تاريخيا لا يمكن إلا عبر المنافسة وقانون العرض والطلب، هناك خيط رفيع جدا بين التدخل الجراحي لإصلاح إفرازات السوق السلبية على المجتمع واللعب في مفهوم السوق المفتوحة الذي تتبناه السعودية ومحاولة قسره على مفهوم تكافلي قد ينتج سلبيات أخرى على مستوى قيم العمل والاستقلالية والمواطن المنتج وهي بحاجة إلى جهات بحثية واستشارية لا يمكن أن تتحمل وزارة العمل منفردة حملها.

هناك الكثير من النواقص والعمل الذي يجب أن يبدأ، وهذا لا يلغي بالضرورة تقبل النقد وفتح المجال للمساءلة الموضوعية، فالتفاؤل المفرط مثل التشاؤم المفرط يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية. لذلك فبداية هذا العصر الذهبي الاقتصادي لا بد أن يرافقها بداية لتغيير مفاهيم أساسية في طريقة تفكير النخب وعموم المجتمع وذلك بالانتقال من الدولة الريعية والتفكير بطريقة أقرب إلى النظم الاقتصادية البدائية. وهذا لن يكون سوى بضرورة البدء بتقليل الاعتماد على نعمة النفط بصورة شبه كلية سواء عبر إيرادات الدولة أو اعتماد القطاع الخاص على الإنفاق الحكومي في الاستثمارات كما أن دعم هيئة مكافحة الفساد وتثمين عملها وتشجيعها أفضل بكثير من الارتهان إلى السلبية والاكتفاء باستعارة شعارات المراحل الثورية البائدة من أن النفط نقمة وأنه براز الشيطان كما قال وزير النفط الفينزولي ذات يوم في لحظة تجل ثورية… وبالطبع أفضل من العقلية الرعوية التبسيطية التي عادة ما ترافق الإعلان عن الميزانية على طريقة «بكم سعر البرميل»؟!

[email protected]