الروس أفشلوا مهمة الإبراهيمي ووضعوا سوريا أمام أخطار حقيقية!

TT

كما كانت نهاية الجولة السابقة ونهاية الجولة التي سبقتها، فإن الأخضر الإبراهيمي قد عاد من جولته الأخيرة، التي أخذته إلى دمشق وبعدها إلى موسكو، متشائما وفاقدا الأمل مبشرا السوريين بأن مصير بلدهم سيكون كمصير الصومال وبأن الخيار الوحيد أمامهم غدا إما الحل السياسي وإما استمرار العنف الذي إن رسا الخيار عليه فيجب انتظار أكثر من مائة ألف قتيل في هذا العام الجديد ويجب انتظار كارثة حقيقية والمزيد من الدمار والخراب والويلات وتحول المواجهات المسلحة إلى حرب أهلية مدمرة.

لأول مرة يخرج المبعوث العربي والدولي عن خط دبلوماسيته الشديدة المعهودة ويقول وهو لا يزال في دمشق وبعد مقابلة مع الرئيس السوري، غير معروف أين جرت هل في دمشق أم خارجها وهل في القصر الرئاسي أم في أحد المخابئ السرية: إنه من غير الممكن أن تبقى سوريا تحكم بالأسلوب السابق المستمر منذ اثنين وأربعين عاما.. وإن الواضح أن السوريين يرفضون هذا النظام الذي بقي قائما على مدى أربعة عقود. وحقيقة إن هذا يعني أن الأخضر الإبراهيمي، السياسي المخضرم والدبلوماسي العريق المشهور بطول نفسه، قد طفح عنده الكيل وإنه ربما سمع من بشار الأسد خلال هذا اللقاء آنف الذكر كلاما لا يمكن أن يصدر عن مسؤول عاقل أصبح بلده يعيش كل هذه الأوضاع المأساوية ويتهدده خطر التشظي والانهيار.

والواضح أن الإبراهيمي قد سمع في موسكو، التي ذهب إليها لتأكُّده أن قرار مصير سوريا أصبح هناك وليس في دمشق، كلاما أسوأ كثيرا من الكلام الذي سمعه من بشار الأسد وأن أقلَّه وأهونه هو قول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي بقي يتصرف منذ بداية الأزمة على أنه هو، وليس وليد المعلم، وزير الخارجية السوري: «إن الأسد يرفض الاستقالة وإنه من غير الممكن إقناعه بهذه الاستقالة».. وهذا معناه هو تحدي المبعوث العربي والدولي وتحدي الشعب السوري كله وكل معارضته بشقيها الداخلي والخارجي.

وهنا فلربما أن الأخضر الإبراهيمي، بعد زيارته الأخيرة إلى موسكو وبعد سماع تصريحات لافروف آنفة الذكر، قد تولد لديه الانطباع نفسه الذي كان قد تولد لدى العديد من المتابعين والمراقبين وهو: إما أن هناك انقساما وخلافا روسيّا بين كبار المسؤولين إزاء الأزمة السورية وكيفية التعامل معها، أو أن هناك تبادل أدوار من قبيل المزيد من استنزاف الوقت وإعطاء بشار الأسد الفرصة تلو الفرصة «لعله» يتمكن إنْ ليس من إنهاء المعارضة المسلحة، فعلى الأقل تحجيمها ليحسن موقعه التفاوضي وليُخرج نفسه من دائرة المساومات المتداولة التي عنوانها تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية و«بصلاحيات كاملة» وبشرط أن لا تكون الأمور المتعلقة بالجيش والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية التي يصل عددها إلى نحو عشرين جهازا من بين هذه الصلاحيات.

والدليل على هذا، وهذا شبه مؤكد، أن نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف كان قد اتفق في اجتماع جنيف، الذي شارك فيه الأخضر الإبراهيمي، مع نائب وزيرة الخارجية الأميركية ويليام بيرنز على أن يُسمح للرئيس السوري، من قبيل حفظ ماء الوجه، بتشكيل الحكومة الانتقالية، التي يجري الحديث عنها والتي يجب الاتفاق المسبق بين كل الأطراف على وزرائها وعلى مواقعهم وعلى كيفية تشكيلها، ثم بعد فترة قصيرة، يجري تحديدها سلفا، يبادر إلى مغادرة البلاد، بضمانة دولية، ويأخذ معه نحو مائة وعشرين من كبار العسكريين ومسؤولي الأجهزة الأمنية ليستقر ومعه عائلته وهؤلاء في الدولة، سواء عربية أو غير عربية، التي تبدي استعدادا لاستقباله.

إن هذا هو ما تم في اجتماع جنيف الأخير، الذي جرى بين ويليام بيرنز وميخائيل بوغدانوف وحضره وشارك فيه الأخضر الإبراهيمي. وحقيقة أن تصريحات نائب الرئيس السوري فاروق الشرع، التي تحدث فيها عن استحالة تحقيق انتصار أي طرف على الطرف الآخر إنْ بالنسبة للجيش والأجهزة الأمنية، أو بالنسبة للمعارضة المسلحة، والتي تحدث فيها أيضا عن ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية «بصلاحيات كاملة» مع التلميح إلى الحد من صلاحيات بشار الأسد، قد اعتُبرت موقفا سوريا رسميا وبالاتفاق بين كل مراكز القوى في دمشق على الاستجابة لما تم بين نائب وزيرة الخارجية الأميركية ونائب وزير الخارجية الروسي بحضور المبعوث العربي والدولي.

لكن المفاجأة كانت أن نظام بشار الأسد قد استقبل الإبراهيمي، الذي وصل إلى دمشق عبر مطار رفيق الحريري في بيروت، بما لم يكن ينتظره وهو: أولا التبرُّؤ من تصريحات الشرع و«مسخها» واعتبارها مجرد رأي شخص مثله مثل رأي أي واحد من بين نحو ثلاثة وعشرين مليون سوري، وثانيا اللجوء إلى تصعيد عسكري غير مسبوق وفي كل المناطق وتقصُّد إيقاع مزيد من الضحايا بين المواطنين العاديين واستهداف حتى «أفران» الخبز التي كان معظم ضحاياها من الأطفال الذين اختلطت مِزَقُ أجسادهم بالأرغفة المجبولة بالدماء.

وهكذا فقد اتضح أن موسكو ممثلة في وزير الخارجية سيرغي لافروف قد دخلت على الخط، وأنها هي التي وقفت وراء التخلي عن تصريحات فاروق الشرع وتبهيتها ومسخها، وأنها هي التي ألزمت أهل النظام في دمشق بمسألتين هما: الأولى إخراج بشار الأسد من دائرة التفاوض والمساومات والإصرار على بقائه حتى انتهاء فترة ولايته التي تنتهي في عام 2014 بل والإصرار أيضا على أن من حقه أن يترشح لولاية جديدة. أما الثانية فهي أنه ليس للحكومة الانتقالية أي علاقة لا بالجيش ولا بالأجهزة الأمنية وأن الصلاحيات في هذا المجال يجب أن تبقى بيد رئيس الجمهورية الذي يجب أن يبقى القائد الأعلى للقوات المسلحة والمسؤول مسؤولية مباشرة عن الأجهزة الأمنية.. وهذا جعل المعارضة تبادر إلى رفض هذه الصيغ كلها ما لم تتضمن نصا صريحا وبضمانة دولية على تنحية الرئيس السوري ومغادرته على الفور هو وكل كبار أعوانه من العسكريين وقادة المخابرات والأجهزة الأمنية.

والآن وبعد هذا كله، فإن السؤال المتداول هو: هل الأخضر الإبراهيمي يا ترى قد اكتفى من موسكو ومن دمشق من الغنيمة بالإياب، وأن مهمته قد انتهت عند هذا الحد وأنه لم يعد هناك أي خيار إلا خيار العنف والحلول العسكرية؟!

مع أن أغلب الظن هذا ما سيحدث، فقد تحدث الأخضر الإبراهيمي عن وجود «مقترح» لم يكشف النقاب عنه، قال إنه من الممكن أن يحظى بإجماع «المجتمع الدولي» وهذا يعني أنه قد يكون هناك تفكير جدي لدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية ومن بينها فرنسا بالطبع بتدخل عسكري في سوريا على غرار تدخل حلف شمال الأطلسي في كوسوفو الذي تم على أساس أن ما كان يجري في هذا البلد البلقاني يعرض أمن دول أوروبا للمخاطر وعدم الاستقرار وأنه بالإضافة إلى هذا هناك أيضا مجازر وبشاعات ترتكب ضد الإنسانية.

إن كل هذا هو مجرد اقتراحات وتقديرات قد تصيب وقد تخطئ، وإن المؤكد أن روسيا مستمرة في التأزيم حتى النهاية وأنها ستبقى تحقن بشار الأسد بمواقف العناد والمكابرة مما يجعل الأمور، إن لم يتم هذا التدخل الأطلسي المفترض، مفتوحة على شتى الاحتمالات ومن بينها احتمال إما أن يحدث انهيار مفاجئ في القطاعات العسكرية الموالية للنظام السوري كما تتوقع المعارضة المسلحة، وإما أن تبرز مجموعة من قادة هذه القطاعات وتبادر إلى القيام بانقلاب عسكري إنقاذي يتبعه حل سريع يجنب سوريا ويلات استمرار المجازر والمذابح والدمار ويضعها على بداية الطريق الذي يريده الشعب السوري؛ أي دولة تعددية وديمقراطية ودولة مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات ليس فيها لا حزب قائد ولا رئيس مبعوث من قبل العناية الإلهية.