«الصكوك الإسلامية» والدستور الجديد

TT

لم يمض وقت طويل على صدور الدستور المصري الجديد حتى بدأ يعطي العبرة والدرس اللذين قد يكونان مفيدين لعمليات التعديل المفترضة له. وربما كان ذلك هو السبب الذي جعل الرئيس مرسي يتبنى حتى قبل التصديق على الدستور في استفتاء عام إمكانية التعديل من خلال وضع قائمة من قبل المعارضة والقوى السياسية أو حتى مجرد الخبراء قائمة بالمواد التي يرون بها خللا وتحتاج إلى مراجعة من قبل السلطة التشريعية ومن بعد ذلك الشعب المصري في استفتاء عام.

القصة هنا تعلقت بإصدار «الصكوك الإسلامية» من قبل وزارة المالية المصرية، والتي طبقا للدستور الجديد وفقا للمادة الرابعة منه عليها أن تستشير الأزهر، والذي عليه وفقا لهذه الحالة أن يحكم وفقا للمادة الثانية من الدستور، والتي تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. هذه المبادئ جرى تعريفها وفقا للمادة 219 من الدستور بأنها المتوافقة مع المدارس المعتبرة لأهل السنة والجماعة. وفقا لكل ذلك، وبعد استشارة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وخبراء جامعة الأزهر من ثقات الاقتصاديين، توصل الأزهر إلى رأي مؤداه أن «الصكوك الإسلامية» غير شرعية، لا تتمشى مع القواعد المرعية لأهل السنة والجماعة.

وببساطة فإن فكرة «الصكوك» ليست جديدة تماما، ولا يوجد فيها ما هو إسلامي أو غير إسلامي بالضرورة، فهي تقوم على إصدار «صكوك» أو ما يشبه الأسهم أو السندات المعبرة عن «قيمة» لأصل من الأصول العامة في المجتمع. شراء هذه الصكوك يؤدي إلى تحقيق عدة فوائد، فبالنسبة للفرد المشتري يحقق فائدة على كل صك يمتلكه عندما يحقق الأصل العام أرباحا يتم توزيعها على مالكي الصكوك. وبالنسبة للمجتمع فإنها تخلق وعاء ادخاريا يمتص جزءا من المال العام في السوق، وبالتالي تقلل الطلب النقدي، ومن ثم تغلق نافذة من نوافذ التضخم في الدولة. أما الأصل العام الذي تصدر باسمه الصكوك، مصنعا كان أو مزرعة، فإنه يحصل على الأموال التي تعينه على التوسع والاستثمار في أصول جديدة، ومن ثم يتحقق النمو دون تحميل المجتمع والدولة أعباء جديدة.

القصة هكذا تبدو مفيدة لأطراف عدة، وقد طرحت بقوة كواحدة من الوسائل التي تتم بها «خصخصة» الأصول العامة، كلها أو بعضها، وحققت نجاحا كبيرا في دولة مثل «التشيك»، بينما فشلت تماما في روسيا لأن الصكوك سرعان ما استقرت في جيوب الأغنياء. وفي الحالة المصرية فإن الفكرة كانت مطروحة خلال العقد السابق من خلال وزير الاستثمار السابق محمود محيي الدين الذي وجدها أنسب الطرق للتخلص من شركات القطاع العام التي إما أنها كانت خاسرة أو أنها لا تحقق عائدا يستحق رعاية الدولة لها. ومن المعروف أن عدد شركات القطاع العام المصرية كان 314 شركة تمثل 18 في المائة من الاقتصاد العام في مصر، وجرت بالفعل خصخصة 149 شركة بوسائل مختلفة، سواء لمستثمر واحد، أو بالطرح كأسهم في البورصة، أو بالبيع للعاملين. أما الـ165 شركة فقد بقيت على حالها، وكانت فكرة «الصكوك الشعبية» هي الحل. ولكن ما حدث فعلا هو أن المشروع جرى الاعتراض عليه من قبل هيئات كثيرة كان كثير منها من داخل الدولة المصرية ذاتها التي كان بعضها لا يزال اشتراكيا يرفض كل أشكال «الخصخصة» والتحول الرأسمالي في الدولة، وكان بعضها الآخر رأسماليا إلى الدرجة التي يرى فيها أن القطاع العام بمصر في طريقه إلى الذوبان كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم لا توجد حاجة لإثارة زوابع لا طائل من ورائها. على أي حال سقط المشروع، وسرعان ما استقال الوزير المتحمس له، وذهب إلى منصب مهم في البنك الدولي.

هذه المرة لم تكن هناك «صكوك شعبية» وإنما تمشيا مع العصر الجديد في مصر «صكوك إسلامية»، والأرجح أن المتحمسين لها في وزارة المالية ظنوا أن وضع كلمة «الإسلامية» سوف يجعل الصكوك شرعية بما فيه الكفاية، ومن ثم تحل على الأقل جزءا مهما من الأزمة المالية المستعصية في مصر عن طريق طرح الأصول العامة في شكل «صكوك» تكفي لتوفير المال للخزانة العامة المرهقة. وبالتأكيد كان آخر ما تتوقعه الوزارة أن يأتي الاعتراض من الأزهر في ظل مواد الدستور الجديد للدولة المصرية المعاصرة في عهد ما بعد ثورة يناير (كانون الثاني).

جاء اعتراض الأزهر بطريقة غير متوقعة، فقد قام الاعتراض على قاعدتين شرعيتين:

الأولى أن بيع الصكوك المعبرة عن أصول عامة إسلامية لا يجوز من وجهة النظر الفقهية لأهل السنة والجماعة. والثانية أن بيع الصكوك سوف يعني فتح الباب للأجانب لشراء الأصول العامة المصرية التي ربما تشمل أصولا استراتيجية مهمة مثل قناة السويس التي استشهد من أجلها أجيال من المصريين. وفي الحقيقة فإنني لست متفقها في الأمور الشرعية إلى الدرجة التي تسمح بالحكم على هذه القواعد الدستورية الشرعية، ومدى تطابقها مع المدارس المعتبرة لأهل السنة والجماعة، ولكن في الأمر مأزقا لا شك فيه. فالأصول المصرية يجرى تداولها بالفعل في البورصة المصرية، والمعضلة فيها أنه لا يتم بيعها، ولكنها تجد صعوبة في وجود المشتري بسبب الظروف التي تمر بها مصر حاليا. الأمر الأكثر تعقيدا، أنه ليس معروفا بعد ما الشؤون الشرعية التي سوف يتاح للأزهر الحكم عليها، وماذا كان يمكن أن يحدث لو أن وزارة المالية المصرية تجاهلت تلك «الشورى» من المؤسسة الدينية الأولى في مصر، وهل يمكن بعدها للمصريين المؤمنين شراء صكوك حكم عليها الأزهر بأنها «غير شرعية»؟

الأسئلة كثيرة ولا شك، فمعظم الأصول العامة التي سوف يجرى تحويلها إلى صكوك لم يكن مثلها موجودا في العصور الإسلامية الأولى حتى يجوز القياس، وما نعرفه عنها أن الإبل والنخيل كانتا ملكية خاصة، أما الكلأ والمرعى فقد كانا ملكية عامة. ولعل الأمر اختلف في وادي النيل، وأودية دجلة والفرات، حيث كانت الزراعة وبعض أشكال الحرف، ومع ذلك فإن الفارق لا يزال كبيرا بين عصور وأزمنة. وربما ينجح مجلس الشورى المصري في عبور الفجوة، وحينما يقدح الفقهاء زناد أفكارهم سوف يجدون حلا إما لإباحة بيع «الصكوك الإسلامية» أو أن الأمر كله ربما لا يستحق هذا العناء. على أي الأحوال ربما يكون التفسير الصحيح معروفا من حزب الحرية والعدالة.