المسألة الكردية: تفاؤل.. مع كثير من التحفظات

TT

التطورات المتلاحقة في تركيا تكاد توحي أن كثيرا من القيادات التركية والكردية في البلاد استفادت من دروس الماضي وتعلمت من التجارب وخيبات الأمل التي اعترضت طريق الحل في التعامل مع المسألة الكردية ومطالب هذه الشريحة الواسعة التي تشكل جزءا أساسيا من المجتمع.

حكومة أردوغان كما فهمنا من خلال اتصالها المباشر عبر رئيس جهاز المخابرات التركية هاقان فيدان وأقرب أعوانه، بعبد الله أوجلان رئيس حزب العمال الكردستاني الذي ينفذ حكما مؤبدا بالسجن في جزيرة معزولة وسط بحر مرمرة، ومحاورته والاستماع إليه في قراءته لسبل حل العقدة الكردية في البلاد، تكاد تقول إنها تسلمت الرسائل التي تشجعها على إطلاق حوار جديد من هذا النوع توافرت له الظروف السياسية والأمنية، وهي خطوة ينتظرها كثيرون باسم منع سقوط مزيد من القتلى ووقف عمليات إنفاق مليارات الدولار على مواجهة تستمر منذ عقود وتقف حجر عثرة أمام مزيد من الصعود التركي في الداخل والخارج.

لماذا نحن متفائلون هذه المرة؟

السبب الأول المشجع هنا هو أن الحوار المباشر الذي بدأته الحكومة التركية هذه المرة مع أوجلان ورغم أنه يتم نيابة عنها بإشراف «الرجل الشبح» فيدان الذي قاد أكثر من عملية استخباراتية - سياسية ناجحة داخل تركيا وخارجها ويعرفه الموساد الإسرائيلي جيدا بعد أكثر من صولة وجولة له مع هذا الجهاز، تحول بسرعة بالغة إلى نقاش علني وشفاف يتابع المجتمع التركي كثيرا من تفاصيله وتفرعاته.

السبب الثاني الذي يحمل الأمل والتفاؤل هو إشراك القيادات السياسية الكردية في هذا التحرك من خلال توجه نائبين كرديين معروفين هما ايلا اتا وأحمد تورك إلى سجن أوجلان لمحادثته لساعات طويلة والاستماع إلى نتائج لقائه بفيدان وقراءته لمسار المرحلة المقبلة في التعامل مع هذا الملف.

السبب الثالث الإيجابي هو أن أردوغان وأعوانه باتوا يعرفون أن الرهان على معادلة استبعاد أوجلان وتهميشه بالغة الصعوبة، وأن التحول الأخير في تفكير وأسلوب «آبو» (وهو لقب أوجلان بين مناصريه الأكراد) وحديثه عن ضرورة الانتقال إلى المواجهة الفكرية السلمية تحت شعار تعزيز نقاشات حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية في تركيا، فرصة ثمينة لا يمكن التفريط فيها وإهدارها إذا ما كانت أنقرة تبحث فعلا عن الحل الجذري والنهائي للمسألة الكردية.

السبب الرابع هو مسارعة العديد من الأقلام والمفكرين والسياسيين المقربين إلى الحكم لتأكيد أن ما يجري هي عملية إنعاش جديدة لمحادثات أوسلو التي بدأت العام الماضي بين الجانبين وتوقفت بعد تدهور الوضع الأمني في جنوب شرقي تركيا، وأن «العدالة والتنمية» متمسك بطرح الحوار المباشر وغير المباشر لإيصال البلاد إلى بر الأمان.

أما الرسالة الخامسة والأهم التي تلقفناها هنا وتحمل البعد الخارجي، فهي مشاركة أربيل والسليمانية بشكل أو بآخر في هذا الحوار وتأييده وتشجيعه؛ هذا إذا لم نشأ القول إن خارطة الطريق الجديدة تساهم قيادات بارزاني وطالباني جنبا إلى جنب مع أنقرة في وضعها وإطلاقها والمشاركة العملية فيها لحماية كل هذا التقارب والانفتاح بين الجانبين في العامين الأخيرين أولا وللخروج من ورطة الداعم لحزب العمال من خلال تجاهل وجود العشرات من قواعده ومواقعه العسكرية في جبال قنديل وشمال العراق ثانيا.

وأين تكمن التحفظات والحذر الذي يقطع الطريق على المبالغة في التفاؤل.

إن المعارضة التركية منقسمة حيال تحرك الحكومة الجديد هذا. كمال كليشدار أوغلو يدعم بتحفظ شديد متمنيا النجاح للحكومة في مسعاها الذي يعرف أنه سيتحول في نهاية الأمر إلى ورقة سياسية ستحاول الحكومة لعبها في الانتخابات البلدية والنيابية المرتقبة. أما حزب اليمين القومي المتشدد الذي يقوده دولت بهشلي فهو يفضل المتابعة عن كثب لكل التفاصيل حتى ينقض عند أي فشل وتراجع في هذه المغامرة والمقامرة الجديدة التي قبلت الحكومة تحمل كل مسؤولياتها وعواقبها كما تقول.

إن حزب العمال الكردستاني سيجد صعوبة بالغة في تبني هذا التحول المهم في أسلوبه واستراتيجياته، وإن انقسامات في المواقف والآراء ستحدث لأن مطلب التخلي عن البندقية المرفوعة بعد أكثر من 30 عاما ليس سهلا دون تقديم الضمانات الكافية بانطلاق برنامج الحوار السياسي الحقيقي معه.

وإن لاعبين إقليميين ودوليين كثر حاولوا دائما التأثير في هذا الملف والإمساك ببعض خيوطه سيدخلون على الخط بشكل أو بآخر لقطع الطريق على هذه الفرصة، وإن مركز الثقل والتأثير ستكون قيادات «العمال الكردستاني» التي تعيش بالخارج؛ في سوريا وأوروبا تحديدا.

ما قاله النائب الكردي في حزب السلام والديمقراطية صلاح الدين دميرطاش حول أن سقف التوقعات ينبغي أن لا يكون عاليا حتى لا تكون خيبة الأمل بالحجم نفسه، وكلام قيادات «العمال الكردستاني» في «قنديل» وأوروبا حول أن الحل لن يأتي من أنقرة وإيمرالي وحدهما، وأن ما جرى حتى الآن هو مجرد عملية جس نبض شهدناها أكثر من مرة ولم يعقبها أي طرح عملي مباشر، وأن المهم الآن أن نرى على الأرض الجديد المطمئن والمشجع من قبل الحكومة التركية، يعني أننا ما زلنا في بداية الطريق الذي نتمنى أن يكون صحيحا هذه المرة.

«العدالة والتنمية» يتحرك على 4 جبهات دفعة واحدة؛ هي: أنقرة وأربيل وإيمرالي وديار بكر، وهي رقصة بالغة الصعوبة وتحتاج إلى مهارة وحذر شديد لتجنب السقوط. فيدان (الشتلة بالعربية) يحتاج إلى رعاية وعناية وأن يدعم في تحركه هذا، كما يقول الوزير اغمان باغش، فاتركوه على راحته إذا ما كنتم تريدون جني الثمار وقطف المحصول.