مجازر افتراضية

TT

منذ يومها الأول لم تتوقف الثورة السورية عن كشف الوجه البشع والحقيقي لنظام البعث.. إنه ذلك الوجه الذي لا يتوانى عن ممارسة أي من ضروب العنف مهما كانت فظيعة وخارجة عن أي عقل أو وجدان.. فكل بضعة أيام، تقذفنا صفحات «يوتيوب» و«فيس بوك» بصور وفيديوهات تحتوي وحشية وقسوة لا متناهية، وهي في معظمها صور لشبيحة وجنود النظام السوري ينزلون أبشع أنواع الألم الجسدي بأبدان وأرواح ضحاياهم. وكان يرافق كل شريط أو صورة تساؤل عن كيفية تسريب الصور وهل فعلا النظام هو من يسرب تلك الفظاعات ولماذا؟

وللحقيقة، فإن الوقت كشف كم أن تسريب تلك الأشرطة بدا سياسة معتمدة من النظام. تظهر تلك الأشرطة المسربة أن النظام في سوريا ماض في تجاهله للحراك الشعبي، وفي خياراته الأمنية، من دون أي اعتبار لأي أخلاق أو معايير إنسانية أو حقوقية، وثانيا؛ وهو الأهم، استدراج ممنهج لتثبيت مخاوف وانقسامات طائفية أمنت للنظام حتى اليوم بقاءه في السلطة ولو بسطوة الحديد والنار.

في هذا السياق، برزت تلك المقاطع التي سربت الأسبوع الماضي والتي أظهرت جنودا مؤيدين لبشار الأسد يقتلون بالسكاكين وبوحشية بالغة مدنيين عزلا. كانت تلك الصور المرعبة محور معارك شرسة ليس بين موالي النظام ومعارضيه فحسب؛ بل بين معارضيه ومعارضيه أيضا. فقد استُدرج، وكما في كل مرة، من يفترض أن المحنة جمعتهم من فئات المعارضين إلى اشتباك فئوي مذهبي. والشتائم التي حفل بها شريط القتل السادي محور الخلاف ضمت، وعلى نحو بدا يراد تظهيره بالصوت والصورة، الكثير من القاموس الطائفي المتداول في سوريا اليوم. إنهم شبيحة من «العلويين» ينزلون العذاب بأجساد ضحايا من «السنة».

هذه اللغة التي يقصدها بأبشع الصور الشريط المسرب نجحت في الوصول وبرزت عبر حوارات وتعبيرات الساخطين على الوحشية التي مورس بها القتل والاستفزاز المباشر للغرائز. ما لبث الأمر أن زاد إشكالية حين تبين أن أحد المشاركين في حفلة القتل المصورة الأخيرة كان من عائلة «بري» الحلبية المعروفة.

وللحقيقة، فإن ما جرى من نقاشات وجدل حول الهوية الطائفية للضحية والجلاد لم يكن سوى مجزرة جديدة تلحق بالسوريين، حتى باتت كل مجزرة فعلية تراق فيها الدماء تستتبع بمجزرة افتراضية عنيفة أيضا يتبادل فيها المعارض والموالي، والمعارض والمعارض أيضا، سلخ بعضهم بعضا، حتى ليكاد المتتبع لحفلات «القتل» الفيسبوكية تلك أن يشعر بأن جسمه يؤلمه من ثقل الحاجز النفسي الذي بات يقسم بين الفئات السورية ويستدرجها نحو مزيد من التقوقع والاحتراق بنيران الطائفية.

والحال أن اقتران المجزرة الواقعية بأخرى افتراضية يكشف جانبا آخر من المأساة السورية يتمثل في نجاح النظام في الوصول بفتنته إلى عقل المعارضة وإلى روحها ووجدانها عبر زرعه قناعة بأن للقاتل وجها طائفيا وللقتيل أيضا، وهو ما يعني أيضا الانتقال بالمواجهة من مستواها الواقعي إلى مستواها الافتراضي على ما يحمل المستوى الثاني من مخاطر تأسيس لمجزرة أخرى.

diana@ asharqalawsat.com