السنوات الأولى

TT

أثناء إقامتي باستراحة مفتشي الآثار في منطقة أهرامات الجيزة، كنت أفكر كيف قادني القدر إلى عشقي للآثار. لقد ولدت بقرية صغيرة تسمى العبيدية في محافظة دمياط، على الضفة الشرقية وعلى بعد أميال من التقاء نهر النيل بالبحر المتوسط عند ساحل مصيف رأس البر. أما أبي عباس حواس فكان مزارعًا يملك أرضًا بالقرية وحصانًا جميلاً ولم نسمع يوماً عن وظيفة أثري أو مفتش آثار. وعلمتني نشأتي في قريتي الصغيرة الكثير عن الحياة وعادات القرى والمناسبات الخاصة التي لا تجدها إلا في القرية المصرية. وبمجرد أن أتممت الخامسة من العمر بدأ أبي في تعليمي. فمثلما كان الحكيم بتاح حتب يرشد ابنه، كان أبي يعلمني: «كن أمينًا ولا تأخذ أي شيء ليس لك.. أحب الناس ولا تجرح أحدًا.. ولكن في الوقت نفسه كن قويًّا ولا تظهر ضعفك لأي شخص عدا الأقربين منك...».

وأرسلني أبي لرجل يدعى الشيخ يونس كي يعلمني القرآن الكريم. وكان الشيخ يونس رجلاً ضريرًا ولكن كان دائمًا يعرفني حين أقوم بأي خطأ بين أقراني. كما كنت أذهب إلى راوي قصص يدعى الشيخ الدسوقي كي أستمع لقصص من التاريخ وروايات من ألف ليلة وليلة. ولم يكن هناك كهرباء بالقرية، ففي الليالي غير المقمرة لا يمكنك رؤية مجرد أصابع يديك. وكان الظلام هو عدوي الذي عرفته من خلال روايات جدتي وقصص الشيخ الدسوقي، فكان الأبطال في رواياتهم يحملون سيوفًا كما كانوا أقوياء وشجعانًا. أما أنا فكنت صغيرًا وضعيفًا جدًّا ولا أقوى على محاربة الأشباح التي تظهر في الليل، حتى أنه إذا طلب أبي مني أن أشتري له شيئًا من المتجر بعد غروب الشمس، كنت أخاف وأرفض إلا إذا جاء معي أخي الأصغر محمود ليحميني من أشباح الظلام. ومات أبي عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، حينها بكيت لعدة أيام وشعرت بأنني فقدت كل شيء ذي قيمة في حياتي. وكنت الابن الأكبر والمسؤول عن شقيقاتي الثلاث وشقيقيَّ الولدين. وكانت أمي لا تزال شابة وقد ترك لنا أبي رحمه الله من المال والأرض ما أمكننا من استكمال تعليمي والذهاب إلى المدرسة، كما كنت أقرأ كثيرًا بشكل شخصي، فقد كنت ألتهم أعمال العديد من الكتَّاب المشاهير المصريين والأجانب. وفي كل أسبوع كنت أوفر قدرًا من المال من مصروفي كي أشتري كتابًا أو أذهب إلى السينما. وحتى اليوم، فإن أعظم المتع لديّ هي قراءة رواية جيدة أو مشاهدة فيلم جذاب.

وعندما كنت في الخامسة عشرة والنصف من عمري، أنهيت الدراسة بالمدرسة الثانوية وتركت البلدة للالتحاق بجامعة الإسكندرية. وكان حلم عمري أن أكون محاميًا، ولكن بعد أسبوع من قراءة كتب القانون، قررت أن دراسة القانون لا تناسبني. ومع وجود حالة من فقدان الثقة والحيرة، ذهبت إلى كلية الآداب لمعرفة المجالات الأخرى المتاحة. وكان هناك قسم جديد للآثار قد أنشئ، حتى أنني لم أكن أعرف معنى كلمة آثار، ويبدو كما قال بعض الزملاء إنه مجال مليء بالفرص. وقضيت أربعة أعوام في الجامعة لدراسة آثار العصر اليوناني الروماني. وكانت الدراسة تشغل جزءًا من وقتي، في حين أن أغلب الوقت أقضيه منشغلا بسياسات الحرم الجامعي فقد كنت رئيسًا لاتحاد طلبة القسم، كما كان لي حياة اجتماعية نشيطة.

وفي عام 1967، ومع وصولي عامي العشرين، أنهيت دراستي الجامعية وبعدها بعام ذهبت إلى القاهرة كي أعمل بمصلحة الآثار كمفتش. وقبل القيام بعملي، قضيت نحو ثلاثة أشهر أخرى لإكمال تدريبي في وزارة الثقافة التي تتبعها مصلحة الآثار. وكان عددنا في فصول التدريب نحو ستين وكنت أنا الوحيد الأثري بينهم، أما الآخرون فكانوا في مجالات المسرح والأفلام والكتب ونشاطات ثقافية أخرى. وكنت أسأل نفسي خلال هذه الفترة سؤالاً لا يتغير: هل يجب عليّ أن أكون أثريًّا أم لا؟ الحقيقة أن أربعة أعوام من دراسة الآثار اليونانية الرومانية بالإسكندرية لم تدخل فيها الآثار إلى قلبي، ولم أكن أتخيل نفسي أن أعمل في مجال لا أعشقه، فما بالك إذا كان هذا المجال لا يلقى قبولاً من قبل العامة. وما زاد من تعميق الجرح، أن الفتاة التي كنت أحبها قد سخرت مني عندما أخبرتها عن وظيفتي!