الجهاد جهادان

TT

من الأوهام الكثيرة التي تشوه حياتنا وتعرقل مسيرتنا، الاعتقاد الخاطئ بأن الإسلام انتشر بالسيف ولا شيء غير السيف ولا ينفعنا غير السيف. وفي ظل هذا الاعتقاد، ننسى كل الوقائع التاريخية والكلمات المسنودة التي تدحض ذلك. من هذه الكلمات التي أثارت الكثير من التعليقات والتأويلات، قول النبي صلى الله عليه وسلم إثر رجوعه من إحدى المعارك: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». رغم كل ما قاله بعض علماء الدين، فإن ظروف القول (بعد الرجوع من القتال) لا يمكن أن تعني بالجهاد الأصغر غير الحرب والقتال. ويبقى الجهاد الأكبر بما يعني مغالبة النفس وتحاشي شرورها. ولهذا، قسم بعض الفقهاء فكرة الجهاد إلى ثلاثة أقسام: جهاد الكفار وجهاد الشيطان وجهاد النفس. وأضاف لذلك ابن القيم «جهاد المنافقين»، ومن كل ما راجعته من تأويلاتهم لا يمكنني غير أن أحصر القتال في إطار «الجهاد الأصغر»، وعندئذ تبقى مغالبة شرور النفس، وعمل الخير، والصبر على المكروه، والدفع بالتي هي أحسن، وصيانة أرواح الناس من أبواب الجهاد الأكبر، وهو ما يمكن أن نسميه في مفاهيم العصر الحديث الجهاد المدني. ومن الواضح أن كلمة الجهاد، بحد ذاتها، مشتقة من بذل الجهد بمعناه العام، ولا علاقة مباشرة لها بالقتل والقتال.

لا شك في أن كثيرا من الناس سيردون على هذا الطرح بالاستشهاد بآية السيف، وغيرها مما يحث المسلمين على مقاتلة العدو. وقد ناقش هذا الموضوع الكثير من العلماء والمفكرون. استشهدوا من الطرف الآخر بالكثير من الآيات المكية التي تؤكد توخي السلم وتحاشي الحرب والقتال. هناك نحو 124 آية تحث على العفو والصبر والتسامح. «الصبر»، الكلمة التي وردت في 103 آيات، تعتبر من القيم الإسلامية الرئيسية حتى إن بعض المفكرين المعاصرين جنحوا إلى استعمال كلمة الصبر كبديل لمصطلح «اللاعنف» Nonviolence. وسأتعرض في مقالة لاحقة لاستعمال الصبر كسلاح فعال من أسلحة الجهاد المدني في مقارعة الخصم.

بجانب فكرة الصبر، استوحى الإسلام فكرة الهجرة التي خلدت بذلك الحدث التاريخي الرئيسي في قيام الدين الإسلامي وانتصاره، ألا وهي هجرة النبي من مكة إلى المدينة. وسبقتها هجرة دعاة الإسلام إلى الحبشة. أصبحت هذه الكلمة الثانية، التي تشكل ركنا آخر من أركان الجهاد المدني، من المفردات الإسلامية التي كثيرا ما ترددت على الألسن والحركات والاجتهادات الإسلامية. وفي التاريخ أمثلة كثيرة على المهاجرة كوسيلة سلمية من وسائل مقارعة الأنظمة الظالمة القائمة.

بالنظر للمعارك القليلة التي قدّر على النبي خوضها، شاعت بيننا فكرة أن الإسلام انتشر بالسيف وبالقوة، رغم أن الإسلام صريح في نفي ذلك، «لا إكراه في الدين». ركن أساسي من أركان ديننا، يستطيع أي متتبع للموضوع أن يلاحظ أن دين الرسول محمد انتشر في الجزيرة العربية، بصورة غالبة، بالمفاوضات والدبلوماسية والدعاية والدعوة، وبصورة خاصة، بطرح بديل متقدم وحضاري للحكم. هكذا دخل الإسلام اليمن وعمان والبحرين وغيرها من جهات الجزيرة العربية.