في الاستبداد ثانية

TT

رفعت حركة الانتفاض التي شهدها الشارع العربي في السنتين المنصرمتين لوحة مطالب، فيها الاعتراض والرفض من جهة، والمطالبة بتحقيق رغبات جامحة من جهة أخرى. فالاعتراض والرفض يلوحان بقبضة يد قوية وصراخ ينبعث من الأعماق: لا للقمع، لا للفساد، لا لاقتصاد الريع، لا للاستبداد. والمطالبة مناداة بالكرامة، والمساواة في الفرص، واحترام حقوق الإنسان، وبالعدالة الاجتماعية. ربما كانت هناك فروق جزئية، تختلف بين هذا البلد العربي أو ذاك من البلدان التي عرفت الانتفاض، فهي في تونس غيرها في مصر، وهي في ليبيا، على غير ما كانت عليه في المغرب، وهي في الحركات الخجولة في مناطق من دول الخليج العربي مغايرة بعض الشيء عن المطالبة في الجزائر - في الوقت القصير الذي حدثت فيه قبل أن يتم خنقها في المهد. غير أنها كانت، جميعها، تلتقي في مطلب واحد يوحد بينها، مطلب يصح القول فيه إنه يلخص كل المطالب المشار إليه، في مطلب العدالة. فالعدالة، في حركة الانتفاض العربي، هي الشعار الذي تنصهر في جوفه المطالب كلها فكأنه ينوب عنها جميعها في تنوعها وتعددها فهو مفرد ينوب عن الجمع،كما يقول النحاة العرب. وإذن لو شئنا أن نجعل لهذا الانتفاض عنوانا لقلنا إنه العدالة أولا.

غير أني أزعم أن العدالة، من حيث هي هدف يكون التطلع إليه ونشدان لما كان مفتقدا في الوجود السياسي والاجتماعي، لم تكن شعارا موجها في «الربيع العربي» فحسب بل إن البحث عن العدالة في مختلف تجلياتها قد كان أيضا الخيط الناظم الذي وحد بين رجال الفكر والسياسة في العالم العربي الإسلامي المعاصر. تساءل المفكرون العرب المعاصرون عن السبب الذي كان الغرب بموجبه قويا وكان العالم العربي - الإسلامي، على العكس من ذلك ضعيفا متخلفا فكان الجواب أن السر يكمن في تحقق العدالة هناك وغيابها هنا. فتحقق العدالة في الغرب، في مقابل هيمنة الاستبداد في العالم العربي هو ما يفسر عند أولئك المفكرين (مع اختلاف الرؤى التي يصدرون عنها) حال «التقدم» التي يوجد فيها الغرب في مقابل واقع «التأخر» التي يضطرب فيها العرب. نقول إذن إن نظرا جديدا في فكر النهضة العربية يحملنا على الاعتقاد بأن الإشكالية التي حكمت الفكر العربي الإسلامي في الفترة التي نتواضع على نعتها بالنهضة هي إشكالية العدالة المفتقدة. ثم إن حملة الأسباب الثقافية والاجتماعية والسياسية تقضي بأن الفكر العربي المعاصر لا يزال محكوما بالإشكالية ذاتها تتباين النظرة وتختلف الأسباب في الوطن العربي بين الفترة التي سبقت استعمار الدول العربية (في كل أشكال الاستعمار: استعمارا مباشرا، أو حماية، أو انتدابا) وبين المراحل التي أعقبت نهاية الاستعمار وبالتالي حلول دولة الاستقلال وزمان بناء الدولة الوطنية في العالم العربي ولكن المطلب ظل في العمق واحدا، وإن كانت الأشكال التعبيرية تختلف والتشوف إلى ما كان مفتقدا مع نهاية عهد الاستعمار ظل موجودا، بل لعل الشعور بالظلم وغياب العدالة كان أشد مرارة وأكثر حدة. فهل يجوز القول، في سؤال أول، إن حركة الانتفاض العربي تعاود الاتصال مع عصر النهضة العربية أو إنها تستأنف ما توقف عنده فكر ذلك العصر؟ وفي سؤال ثان: هل في الإمكان التقرير (كما رأينا عند بعض المثقفين العرب) بأن «الربيع العربي» يبشر بعصر «النهضة العربية الثانية»؟

الحق أن السؤالين يحضران بقوة حين النظر في حركة الانتفاض وقد سنحت لنا الفرصة، بدورنا، في التفكير فيهما أكثر من مرة وفي هذا المنبر تحديدا. وصفوة القول الذي كنا ننتهي إليه، مع اختلاف دروب التحليل التي كنا نسلك، هي أن الحركة إذا كانت توصف بالعفوية - وهو ما نوافق عليه - فإن معنى ذلك هو غياب التنظيم أو التأطير السياسي وبالتالي هو العمل خارجا عن دوائر العمل السياسي المعتادة (الأحزاب السياسية، إذ من سمات حركة الانتفاض التشكيك فيها وإلحاق مختلف نعوت الضعف والقصور بتلك الأحزاب)، وهذا صحيح، لكن المعنى العميق للعفوية يظل هو غياب المضمون الفكري الواضح والوضوح النظري الذي يهدي في السياسة وينير السبيل ويحفظ من التخبط. غير أن موضوع حديثنا اليوم هو القول في الاستبداد من حيث أن الحركة جعلت من دفعه شعارا لها، شعار يتم بتوسط المطلب الأسنى في الحركة: مطلب العدالة الغائبة أو العدالة أولا - كما تصح صياغة المطالب الشبابية بكيفية. لا يزال الاستبداد خطرا قائما، وإن كان يتستر خلف أستار واهية، ولا تزال الحياة العربية تشتكي منه وتكتوي بناره، وقد يكون الموجودون اليوم في مواقع السلطة التنفيذية أول ضحاياه وإن توهموا العكس، ولا تزال معركة الانتفاض العربي مع الاستبداد طويلة. والسؤال الذي نطرحه اليوم هو التالي: ما السبل الكفيلة بإلحاق الهزيمة بالاستبداد حتى يقدر العرب، أخيرا، على الوقوف عند أول الدرب الذي يؤدي إلى الحرية والكرامة وبالتالي إلى العدالة؟

ربما اعتبر السؤال ساذجا، بل لعله في الحقيقة كذلك متى نظر إليه على نحو يعلو على الزمان ويريد أن يرتفع فوق التاريخ، غير أننا نستهدف من طرحه التنبيه والتذكير معا ونحن على عتبة السنة الثالثة لانطلاق حركة الانتفاض. لا شأن لسؤالنا بالواقعية السياسية إذن، بل نحن نعترف بأنه سؤال نظري غير أننا نرى في طرحه أمرا واجبا ومسؤولية لا مندوحة من تحملها.

لا معنى لطرح السؤال عند أناس لا يزالون يتشككون في فعل الانتفاض العربي فهم يتحدثون عن «المؤامرة» تارة، وعن «الخصوصية المميزة» التي تجعل هذا البلد أو ذاك في منجاة عن التيار. لا جدوى من ذلك عند من كانوا يفتقدون الحس السياسي العميق وينقصهم الوعي التاريخ المخلص من الوهم. تلك هي التوطئة الضرورية التي يعقبها التقرير بأن الخير كل الخير يكمن في الإقبال، أخيرا أعلى الحياة السياسية السليمة - بل الطبيعية - تلك التي تقوم على وجوب الاعتراف بالتعدد والاختلاف في الرأي من جهة أولى، والاعتراف بمبدأ تداول السلطة بالطرق الديمقراطية من جهة ثانية، وبما ينتج عن ذلك من إيمان بحق الأقلية كاملا وبوجوب صيانة ذلك الحق والدفاع عنه وهذا من جهة ثالثة، والنتيجة المنطقية لهذا هي الاقتناع بأن الذكاء السياسي الحق والوعي المخَلِّص على الحقيقة يقوم في انتهاج طريق الانتخاب الحر النزيه، بل الانتخاب وحده إذ إن في إلحاق نعت ما بالانتخاب تشويه وإفساد. والمجال الطبيعي لإحقاق وجود مماثل يقوم بموجب قانون أسمى منه يكون استمداد القوانين كلها لأنه روح تلك القوانين وهو الدستور، شريطة أن يكون الدستور موضع اتفاق وتراض تقره هيئة عليا تمثل مختلف ألوان الطيف في الوجود الاجتماعي. وفي كلمة جامعة: لا سبيل إلى الوقوف على أول الدرب الذي يفضي إلى العدالة من دون حصول رجة قوية في الوعي العربي، رجة تقدر على إحداث الوعي بما يحدث - وليس بعد متوقفا ولا منتهيا.