قبطي بين مسلمين

TT

ليس هناك ما هو أسوأ من أن يُقال في القاهرة، هذا الأسبوع، إن تهنئة الأقباط بأعيادهم، التي حلت في 7 يناير (كانون الثاني)، حرام، ولا تجوز شرعا!

كنا على استعداد لأن نتقبل تخريفا من هذا النوع، فيما قبل ثورة يناير، إذا جاء على لسان جاهل لا يعرف من أصول دينه شيئا، ولا ينطق إلا بما يُلصق الفظاظة، بهذا الدين السمح ظلما.. فالجاهل، والحال هكذا، معذور، لا لشيء، إلا لأنه لا يعرف.. أما أن يخرج رجل دين، ويحظر تهنئة القبطي في عيده، فهذا في الحقيقة، هو ما لا يُطاق، ولا يمكن تحمله تحت أي ظرف، كما أنه بالضرورة، لا يمكن تفهمه، ولا استيعابه!

ففي صحيفة «الشروق» المصرية، خرج علينا الشيخ أحمد المحلاوي، إمام مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية، ليقول في عددها الصادر صباح الاثنين الماضي، إن تهنئة النصارى تجوز، إذا كانت بنية «الهداية» فقط، لا أن تكون على سبيل الاعتراف بأعيادهم، فالمعايدة في هذه الحالة الأخيرة لا تجوز في ظنه!

وإذا كان داعية في شهرة الشيخ المحلاوي، وفي مكانته بين الدعاة في مصر، قد وجد في نفسه الجرأة على أن يتلفظ بشيء من هذا، فلا بد أن يأسف المرء، أولا، لصدور كلام كهذا عن رجل نفترض فيه، أنه يعظ المواطنين في مسجده الشهير، بما قال الله، وقال رسوله الكريم، إذ لا يتصور الواحد منا، ولا يتخيل، أن تكون هناك آية واحدة في القرآن العظيم، تطلب من المسلم ألا يهنئ إخوة له في الوطن، بأعيادهم، وكذلك الحال مع أحاديث نبي الإسلام الصحيحة، وهو النبي الذي وقف ذات يوم، كما روي عنه أصحابه الكرام، لجنازة مرت بهم، صدفة، وقد نبه أحد الذين حضروا المشهد، رسول الله، إلى أن الجنازة لرجل يهودي، فما كان من محمد بن عبد الله، إلا أن رد عليه، بما يشبه الزجر والتعنيف، وأعطاه درسا باقيا، وقال ما معناه، إن الجنازة لنفس/إنسان، وكفى، بصرف النظر عن ديانته!

حدث هذا، منذ ما يزيد على 14 قرنا من الزمان، ثم يأتي الشيخ المحلاوي، بعد كل هذه القرون التي من المفترض أن تكون قد هذبت الحس الإنساني فينا، وضاعفته، ليقول بكلام لا يمكن أن تقبله أنت، من بني آدم عادي، فما بالك إذا كان القائل رجل دين، وداعية، وشهيرا، وصاحب دروس متداولة بين الناس!

ليس هذا فقط، وإنما كان الدكتور محمد بديع، مرشد جماعة الإخوان المسلمين، قد هنأ المسيحيين بالعيد، فإذا بكيان يسمى «هيئة الإصلاح» يعترض، وهو الأمر الذي تحوَّل إلى مانشيت على ثمانية أعمدة، من الصفحة الأولى، في جريدة «الصباح» المصرية، في عددها الصادر يوم الاثنين الماضي أيضا!

أستدرك هنا لأقول، إن وجود كلام الشيخ المحلاوي، في مانشيت «الشروق» تارة، ثم خروج «الصباح» بالمعنى ذاته، في مانشيتها، في اليوم نفسه، تارة أخرى، لا يعني أن الحكاية تحولت إلى ظاهرة، أو ما يشبهها في مصر، فلا يزال الأمر مجرد أخبار أو فتاوى متناثرة، لا تعبِّر، في ظني، عن مشاعر المصريين النقية في عمومهم.

أذكر هنا، قصة طريفة، كان كاتب هذه السطور طرفا مباشرا فيها، لعلها في إجمالها تكون ذات معنى، فيما نحن بصدده الآن، لقد حدث قبل ثلاثة أعوام من اليوم، أن كنت عضوا في وفد صحافي مصري سافر في مهمة عمل إلى روما، وكنا جميعا من المسلمين، إلا قبطيا واحدا، وهو الصديق العزيز شارل فؤاد المصري، مدير تحرير صحيفة «المصري اليوم».

يومها، كان المستشار عدلي حسين، رئيس محكمة الاستئناف السابق، وخبير القانون البارز، على رأس الوفد، وحين اجتمعنا مع مجموعة إيطالية مماثلة في العاصمة هناك، وكان بينهم الإعلامي، والصحافي، والقانوني، والسياسي، قال المستشار حسين ما معناه إن المسلم والقبطي يمثلان معا، في مصر، سبيكة واحدة متماسكة، وإنه يستحيل عليك كأجنبي، أن تفرِّق بين جزء فيها وآخر، ثم أراد الرجل أن يؤكد للحاضرين من الطليان صدق ما يقوله، بالدليل القاطع، فقال مشيرا إلى نفسه، وإلينا، إننا وفد من بضعة أفراد، بيننا قبطي واحد، وأراهنكم - هكذا خاطبهم وهو يتكلم - أن تميزوا من حيث الشكل على الأقل، بين القبطي والمسلم، في أعضاء الوفد.

أخذ الحاضرون من الجانب الإيطالي رهان الرجل بجدية كاملة، وراحوا جميعا يتفرسون في وجوهنا، بحثا عن القبطي بيننا، وإذا برئيس الجلسة، وكان إيطاليا بالطبع، يشير نحوي أنا، ويقول بأني أنا القبطي الوحيد!

ضج أعضاء الوفد المصري بالضحك، وكان صديقنا شارل فؤاد، أسرعنا إلى الانفجار ضحكا، وأشدنا دهشة، وقد صارت طرفة من يومها، وقد رجعت أنا من إيطاليا، بعد تلك الرحلة، قبطيا، في نظر الإيطاليين، بعد أن كنت قد ذهبت مسلما!

كنت يومها، أسعد الناس، لأن صاحبنا الخواجة الإيطالي، قد خسر رهانه، معنا، وأظن أنه خرج من اللقاء، وهو على يقين من أن تفرقة من نوع ما كان هو يبحث عن دليلها بيننا، ولو شكلا، ليست موجودة عندنا، في الأحوال الطبيعية، ولا هي مطروحة!

لا عجب، إذن، في أن يكون البابا شنودة الثالث، بطريرك الكرازة المرقسية، وبابا الأقباط الأرثوذكس السابق، قد مات، وهو يردد عبارته الخالدة: مصر وطن يعيش فينا قبل أن نعيش فيه!

ولكن العجب كله يبقى، حين تبلغ القسوة في قلب رجل دين، إلى حد أنه لا يجيز تهنئة القبطي في عيده، إلا على سبيل «الهداية» لا الاعتراف بالعيد.. إن أفكار هذا الرجل ليست من مقاصد الدين العليا في شيء، وهو أبعد ما يكون من مبادئ الدين الذي يتحدث باسمه، وإن صلى، وإن صام!