المالكي.. المختار الثقفي أم المنصور؟

TT

لم يخب نوري المالكي، رئيس الحكومة العراقية، الأمل فيه، وكان عند حسن الظن به، إنسانا ينتمي بإخلاص إلى هذه المنطقة المريضة بعلل التاريخ ودخان الماضي الثقيل. ولست أنزه غيره من الضفة السنية العراقية أو غير العراقية.

كأن الزمن عندنا خلق من جمود ونحت من ركود، لا حركة فيه ولا حياة، حتى أنك تستطيع انتزاع أي قائد من قادة الموالاة أو المعارضة في العراق أو في الشام أو في اليمن، وتقذف بهم في لجج الماضي وصراعات الفرق و«الملل والنحل»، ولن يشعر بكثير اغتراب ولا بوطأة الانتقال من زمن إلى زمن، لا يفرق بينه وبين الماضي إلا حساب الليالي والأيام، لا تراكم العقل والتجارب وتجاوز الماضي المستمر، الذي هو - أعني التجاوز الخلاق - جوهر التقدم العلمي، ولولاه لقعدنا إلى اليوم نحرث الحقل بالثور ونسافر إلى المدن بالبعير والدواب.

في خضم الصراعات بين نوري المالكي، رئيس الحكومة، ومنافسيه، وجلهم من العرب السنة، وفيهم شيعة ومعهم أكراد بارزاني، حضر التاريخ المتوتر بقوة، فصنف المالكي من قبل خصومه باعتباره صفويا عميلا للفرس والمجوس، وكان الطرف الموالي للمالكي غارقا هو الآخر في برك التاريخ ومستنقعاته أيضا، فقد كان لافتا للمتابع أن أنصار المالكي الذين خرجوا في ساحة التحرير بالعاصمة بغداد، محتقنين وكأنهم طووا الزمان القهقرى حتى أعادوا صيحات كربلاء والطف وجيش سليمان بن صرد، جيش التوابين، وأخيرا صورة القائد العراقي الخطير المختار الثقفي، الذي رفع شعار الثأر للحسين من خصومه، واتخذ هذا الشعار ذريعة سياسية للحكم، كما اتخذ غيره شعارات أخرى، ودوما في الغالب دينية، تلعب بوجدان الجمهور المشحون.

صورة رأيتها مرفوعة بين جماهير المالكي في بغداد، ردا على جماهير الأنبار والموصل، فيها صورة المالكي، وبجانبها عبارة: «انصروا مختار العصر»، ثم صورة أخرى عليها أيضا صورة المالكي، وصورة أخرى، متخيلة طبعا، للمختار الثقفي، في مقارنة واضحة المغزى والدلالة.

بهذا الروحية وبهذا النهج، أطلق المالكي وجمهوره على أقدامهم الرصاص، وانحجروا في كهف الطائفية والأحقاد القديمة، ووقعوا فيما يتهمون به خصومهم من إثارة الطائفية، كما دأب المالكي وأبواقه الإعلامية على القول تجاه رموز الانتفاضة ضده، وكما ذكرت في البداية، لست أنزه كل خصوم المالكي من إثارة الغريزة الطائفية للحشد ضد المالكي. لكن الفرق أن المالكي هو السلطة وهو المطلوب منه الحرص أكثر على حماية النسيج الوطني العراقي من الاستهداف الطائفي، وإذا كانت المعارضة مسؤولة مرة، فهو مسؤول 20 مرة أكثر، هو وتياره وجمهوره وكتيبته الإعلامية.

كان المنتظر من المالكي حينما رأس الحكومة في المرة الأولى وحتى في المرة الثانية المشكوك فيها، أن يكون لكل العراقيين، وأن يتجاوز إطاره الطائفي، وثقافته الحزبية التي رباها عليه حزب الدعوة، حتى ولو وصل للحكم ضمن هذه الشعارات، لكنه خيب الظن.

أذكر أن صاحب هذه السطور كتب في ما كتب في يونيو (حزيران) 2008، مقالا ناقش فيه فكرة هل يكون المالكي هو منقذ العراق بعد فترة مخيبة لسابقه إبراهيم الجعفري، ابن حزب الدعوة المخلص، والضعيف، وكثير التنظير؟

قيل حينها إن المالكي جاء على أساس برنامج الأمن، وعلى وقع انتقادات سنية وعربية وعلمانية بالاختراق الطائفي لأجهزة الأمن، وطولب بتطهير وزارة الداخلية من السمعة الطائفية السيئة التي لحقت بها، بعد اكتشاف سجن الموت والتعذيب السري، وأنه صمم خطة بغداد للأمن بعد استفحال التفجيرات والمفخخات، ولم تصنع كبيرَ شيءٍ، ثم انطلق إلى العالم العربي حتى يثبت أنه غير إيراني التبعية، وطالب العرب بفتح السفارات في بغداد، وردد كثيرا أن هناك تدخلات إيرانية. كما ردد ذلك جنرالاته في الجيش وقوى الأمن، ولكنه في نفس القوت لم ينس الإشارة إلى «التكفيريين» أي السلفيين السنة، و«الصداميين» أي البعثيين، ولما استعصى أمر مقتدى وجيش المهدي في البصرة، فارضا شروطه الدينية على الناس ومحددا طريقة لبس النساء والرجال ويتجه بعروس الجنوب إلى «قندهار» شيعية، أراد المالكي إثبات أن حزمه لا يفرق بين سني وشيعي، أراد ذلك عمليا بعدما تحدث عنه كثيرا، حتى لا يصبح مثل سلفه الجعفري: جعجعة بلا طحن، فتوجه على رأس قوة كبيرة إلى البصرة ونازل مقتدى الصدر، وقضى، أو اقترب من ذلك، على وجود ميليشيا الصدر في البصرة - عادت هذه الميليشيا لاحقا بقوة - ثم توجهت قواته لمدينة الصدر فمنطقة الشعلة، وصرح حينها: بأنه لدى الشيعة من هم أسوأ من «القاعدة»! وكان ذلك تصريحا مميزا، من رمز حزبي شيعي معروف.

وتمنيت عليه أن ينسى أنه كادر حزبي تربى على أدبيات حزب الدعوة وأحقاد التاريخ المريض، وأن يكون بطلا وقائدا لكل العراقيين، رحبنا بحزمه تجاه ميليشيا الصدر، ولكن تبين أن كل ذلك كان سرابا، وأن هذا الحزم لم يكن إلا لفرض الهيمنة على الساحة الشيعية فقط.

وبما أن الحديث عن التاريخ ورموزه ورجالاته، فقد تمنيت عليه أن يقتدي - من بعض الوجوه - بحاكم شهير سبقه إلى الحكم في بغداد، سرة الدنيا، وكان يحوز ملكا عظيما، ألا وهو الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، الذي وصل إلى الحكم بشعار ديني ذي نكهة شيعية «البيعة للرضا من آل محمد» لكنه حينما وصل للحكم، نسي كل هذه الشعارات وأصبح حاكما للكل، عدلا وظلما، دون تمييز، وتمنيت على المالكي أن يقتدي بهذه الجزئية فقط من المنصور، جزئية أن تكون لكل العراقيين وأن لا تأسرك فواتير الأحزاب والتيارات العقائدية... ولكن «هيهات منا الذلة» كما يصرخ أنصاره.. في هتاف أصم المعنى أبكم اللسان، متجرد من التفسير والواقع.

يظهر أن المالكي قرر أن يقتدي برمز آخر من التاريخ، ومن العراق تحديدا، هو المختار الثقفي، وكما قيل سابقا في هذه المساحة، يناير (كانون الثاني) 2010 إن المالكي هو مقلد فاشل للمختار الثقفي، وكان ذلك تعليقا على هستيريا الاجتثاث التي قادها مع حليفه البارع في المرونة، أحمد الجلبي عبر ما سمي بهيئة «المساءلة والعدالة» التي لاحقت كل من كان ضد حزب الدعوة ومن شابه حزب الدعوة، بشكل ثأري، كما لاحق المختار خصومه السياسيين.

على أن المختار كان رجلا ماهرا انتهازيا، كأي شخص يدغدغ المشاعر ويرفع شعارا مقدسا عند جمهور ما من أجل مكسب سياسي ومطمع سلطوي.

المختار لم يكن مخلص الولاء لفكرة آل البيت إلا بقدر ما تخدم أطماعه في السلطة كما يقول بعض الباحثين والمؤرخين، ولعل عبارة شيخ المؤرخين ابن جرير الطبري كاشفة في حقيقة تفكير وتخطيط المختار، فهو يقول عنه: «كانوا يقولون: إنه عثماني وإنه ممن شهد على حجر بن عدي وإنه لم يبلغ عن هانئ بن عروة ما أرسله به، وقد كان علي بن أبي طالب عزله من القضاء». (عثماني أي منحاز إلى عثمان بن عفان. أما حجر بن عدي فهو من أنصار آل علي أعدمه معاوية بن أبي سفيان. وهانئ بن عروة هو من استضاف وأخفى مسلم بن عقيل، مبعوث الحسين إلى أهل الكوفة)، كما يذكر الكاتب مجدي إبراهيم خليل في مقالة له عن دوافع ثورة المختار، نشرت في «الحوار المتمدن».

وينقل مجدي عن ابن جرير جوهر دوافع المختار الحقيقية في الثورة، وكان هذا آخر حياة المختار، فيقول إن المختار ذكر لأحد أصحابه بصراحة أنه رأى أن ابن الزبير قد سيطر على الحجاز، ونجدة بن عامر على اليمامة، ومروان على الشام، فلم لا يكون له نصيب في السلطة، وهو كأحد هؤلاء العرب أخذ هذه البلاد مستغلا المطالبة بثأر أهل البيت.

لا جديد إذن في بشر هذه المنطقة، من المنصور إلى المختار إلى المالكي، وبينهما وبعدهما وقبلهما، من كل طرف وتيار.

كثير منهم ركب حصان الشعارات المقدسة من أجل الظفر بجائزة السلطة وغنيمة الحكم... وتظل الساقية تدور.

[email protected]