باراك أوباما 2

TT

لا يمكن التأكيد كثيرا على أهمية الولايات المتحدة للنظام الدولي، والشرق الأوسط في قلبه. وبالتبعية فإنه لا يمكن التأكيد أكثر على أهمية الرئيس الأميركي، فأيا ما كان الحديث عن دولة المؤسسات في واشنطن، والقوة الكبرى التي يتمتع بها الكونغرس، وقوى أخرى داخل النظام الرسمي وغير الرسمي في الدولة الأميركية، فإنه ربما لا يوجد شخص آخر على وجه الكرة الأرضية لديه القدرة على تحريك موارد عسكرية واقتصادية ومعنوية وكل ما له علاقة بالقوة الناعمة مثل تلك التي يستطيع تحريكها الرئيس الأميركي. صحيح أن الرئاسة الأميركية تنتابها أحيانا نوبات ضعف نسبي قد ترجع إلى طبيعة النظام الانتخابي والدورات الرئاسية، وقد تعود أحيانا أخرى إلى شخصية الرئيس نفسه الذي قد يضع نفسه في فشل فادح أو مأزق شخصي مروع. حالة ريتشارد نيكسون مع فضيحة ووترغيت شلت القيادة الأميركية لشهور طويلة على أميركا والعالم، وبدرجة أخرى كان فشل جيمي كارتر مع أزمة الرهائن الأميركيين في إيران سببا في عدم القدرة على تطوير عملية السلام المصرية – الإسرائيلية، وبدرجة ثالثة كانت فضيحة «إيران - كونترا» مع ريغان، ومونيكا لوينسكي مع بيل كلينتون، وإعلان الفشل في حربي العراق وإيران بالنسبة لجورج بوش الابن. لاحظ هنا أن كل هذه الأزمات جرت في فترة الولاية الثانية لكل رئيس، وفي بلدان ديمقراطية أخرى فإنها كانت تكفي لكي تشل يد الدولة وقدرتها على الحركة داخليا وخارجيا. ولكن، ومع ذلك، فإن أيا منها رغم ما أخذت من سلطة الرئيس فإنها لم تقلل من قدرته ومكانته على مستوى العالم، فهو الذي يضع جدول الأعمال، وهو الذي يقرر مستقبل الحرب والسلام.

باراك أوباما يدخل رئاسته الثانية دون نفس الضجة التي أثارها في رئاسته الأولى، فلا عيون دامعة لدى جيسي جاكسون، أحد القيادات الأميركية اللامعة من أصل أفريقي، لأن حلم مارتن لوثر كينغ قد تحقق، ولا يبدو الأمر كما لو كان بداية جديدة للإنسانية. صحيح أن أوباما حقق بعض الإنجازات التي لا بأس بها، ولكن أيا منها ليس ذلك الذي سيدخله التاريخ كرئيس عظيم، حتى ولو كان قد حصل على جائزة نوبل للسلام لكي يحقق أمرا عظيما. فما جرى أن ذلك لم يحدث، وكانت أهم إنجازاته هي تجنب الكوارث أو الخروج من بعضها، فقد طفت أميركا فوق الأزمة الاقتصادية، ولكن الانتعاش الحقيقي لا يزال بعيدا، وخرجت من العراق ولكنها تركته في معضلات لا تقل قسوة عن تلك التي عاشتها أيام الديكتاتورية، ويبدو أنه لا مفر من أن يكون نصيب أفغانستان هو العودة إلى حكم طالباني معدل قليلا أو كثيرا، أما الشرق الأوسط فقد انتهت عملية السلام، وكذلك لم يبق الكثير من محاولته لتوافق الدول الإسلامية مع الغرب. وربما سوف يكون نصيب أوباما من التاريخ هو أنه كان قوة كاشفة ومؤسسة أكثر منها منجزة، وهذه تحتاج بعضا من التفاصيل لأنها سوف تكون أساس التعرف على السياسات الأميركية المقبلة.

كان مجيء باراك أوباما انتصارا لتحالف التنوع مع التكنولوجيات الحديثة التي يتقنها ويعرف كيف تطوعها قوى الشباب وصغار السن في العموم. وفيما يبدو أننا ننسى أحيانا الحكمة الماركسية حول التغير الجوهري في قوى الإنتاج، وربما تحدثنا كثيرا منذ نهاية العقد الأخير من القرن العشرين عن «العولمة» والثورة التكنولوجية العالمية المعاصرة، ولكننا لم نعرف تحديدا ما الذي يعنيه ذلك في الواقع العملي، أي على صعيد علاقات الإنتاج، والأفكار والقيم. والأهم، وهو ما يحدث بالضرورة توازن القوى بين هؤلاء الذين يقعون داخل العملية التاريخية الجديدة، وهؤلاء الذين يقعون خارجها. أوباما شكل هذا التحالف في الولايات المتحدة، وكان هو الذي أعطاه - إلى جانب عناصر أخرى - الانتصار في المرة الأولى وجاء به إلى البيت الأبيض. وكان هذا التحالف هو الذي أعطاه الفرصة الثانية حتى من دون عون تلك العناصر الأخرى، فلا كان رومني مثل ماكين، ولا كان الحزب الجمهوري هذه المرة كما كان في المرة الأولى. وما لا يقل أهمية عن ذلك أن هذا التحالف ذاته كان هو الذي أعطاه إنجازاته القليلة حينما أسهم في إنقاذ الصناعة الأميركية، وأعطى الولايات المتحدة فرصة للاكتفاء الذاتي من الطاقة، وأكثر من ذلك أسهم في التعامل مع أكبر الكوارث البيئية مثل تسرب النفط الهائل في خليج المكسيك، أو إعصار ساندي الذي عصف بالساحل الشرقي للولايات المتحدة.

أوباما في الفترة الثانية لن يختلف كثرا في منهجه عما كان في الفترة الأولى، بل إن المرجح هو أنه سوف يزداد ثقة في هذا المنهج. وفي الجولة الأولى حتى قبل أن يقسم مرة أخرى للرئاسة الثانية فإنه وجد أرضية مشتركة مع الجمهوريين لتلافي «المنحدر المالي»، ولكنه لا يستطيع تجاهل أنه أعطى تنازلات غير قليلة كلها تقول إن أوباما «الاشتراكي» قد ذهب إلى غير رجعة وإنه آن الأوان للتركيز على النمو الاقتصادي ليس لصالح أميركا وحدها، وإنما لصالح حلفائها أيضا خاصة في أوروبا واليابان، حيث يمكن للتحالف الذي أقامه أن يجد أرضية مناسبة للتمدد والاتساع.

الطبيعي أن تسأل جماعتنا عن نصيب الشرق الأوسط عامة، والمنطقة العربية بشكل خاص، في سياسات أوباما خلال فترته الثانية. وبالنسبة للرجل فإن هناك مجموعة من الثوابت المعروفة والتي قامت عليها السياسة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية والممتدة إلى الضلع الأوروبي ممثلا الآن في حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي، والضلع الآسيوي أو الباسفيكي ممثلا في اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية. هنا فإن الخروج من الأزمة الاقتصادية هو الهدف، ومواجهة أو تطويع روسيا وإيران هي الموضوع، ولكن هناك أهدافا أخرى للتحالف الجديد لكي يجد أرضا جديدة تبدو مفتوحة ومتاحة في الصين والهند وباقي الدول الآسيوية الصاعدة، وتلك الناهضة في أميركا الوسطى والجنوبية. وببساطة فإن العالم يبدو كبيرا، والزمن يبدو قصيرا، بحيث لا يوجد ما يغري أوباما بالاتجاه نحو الشرق الأوسط ما دامت إيران لم تنتج قنبلة نووية، وأمن إسرائيل يظل منيعا، وما بعد ذلك مجرد تفاصيل وإدارة أزمات من وقت لآخر. ولوهلة بدا لأوباما أن الشرق الأوسط يمكنه أن يكون مكانا لتحالفه الجديد، مرة من خلال السلام العربي - الإسرائيلي، ومرة من خلال «الربيع العربي». وفي الأولى كان السلام أسيرا لقرن من الصراع لا تستطيع أطرافه الخلاص منه، أما الثانية فقد وجدت القرن الواحد والعشرين أكثر صعوبة في اللحاق من التراجع أربعة عشر قرنا من الزمان.