الماتدريوشيبون !

TT

لا أتذكر الآن ذلك الصديق الذي صك مصطلح «الماتدريوشيبون» المنحوت من عبارة بالدارجة النجدية «ما تدري وش يبي» والتي تقال عادة تجاه الشخص الذي لا تستطيع أن تفهم ما الذي يريده بالضبط، وهم من كان يطلق عليهم منذ بدايات التفلسف الإنساني السفسطائيون ولاحقا اللاأدرية، والآن أعتقد أن هناك إعادة بعث للسفسطائية ولكن من منظور سياسي كأحد إفرازات المرحلة العسرة التي تعيشها المنطقة حيث الربيع أنتج خريفا في الأفكار وشتاء قارسا في الاقتصاد وصيفا ملتهبا في التحديات والملفات التي نواجهها.

بالطبع يمكن رصد حالة الارتباك السياسي بوضوح في نماذج الربيع العربي بدءا من لحظات التغيير المنفلت العقال وصولا إلى قفز الإسلام السياسي على عرش السلطة من خلال الصعود على أكتاف صناع الثورة من الشباب والمعارضة وكيف سهلت «اللاأدرية» السياسية في سهولة صعود القوى الجديدة وذلك عبر التردد في التعامل مع الأنظمة السابقة ثم لاحقا مع الجيش ثم مع القوى المدنية المضادة للإسلام السياسي ثم الانقلاب على الإسلاميين ثم حالة من الفوضى الدائمة التي ترفع شعارات الثورة بعد أن انطفأ أوارها وبدأ مشروع بناء الدولة من جديد.

ومثل هذا، السفسطة في تقييم المشهد السياسي من قبل المعارضة وقع القوى الحاكمة في أنظمة ما بعد الربيع العربي في نفس المأزق، فهم يرفعون شعار الديمقراطية والتعددية لكن ينفردون بالحكم ويسحقون كل المعارضة، بل ويصل الأمر إلى التعدي على الدستور والبرلمان وصولا إلى القضاء، وبينما تعيش الأقليات السياسية والدينية أسوأ حالاتها في الحالة المصرية على سبيل المثال؛ يخرج أحد أبرز نجوم جماعة الإخوان ليطالب بعودة يهود مصر وتعويضهم، بينما يصرح رمز الإسلام السياسي في تونس أن الثورات ليس من واجبها جلب الديمقراطية وإنما دورها إسقاط الأنظمة، وفي كل الحالات الربيعية بينما يرفع الجميع شعارات الإصلاح والتطوير تعيش المرأة أسوأ حالاتها على مستوى التمثيل السياسي أو الحراك الاجتماعي والمشاركة في صنع القرار.

بعيدا عن الإغراق في نقد حالة الربيع العربي؛ فإن باعث هذا المقال هو رصد حالة «اللاأدرية» في السياق المحلي بعد رصد مجموعة من ردود الأفعال المتناقضة تجاه ثلاث قفزات تاريخية تعيشها المملكة بفضل قرارات إصلاحية كبرى دشنها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أولها يتصل بمفهوم الاعتدال والوسطية عبر مركز حوار الأديان والثاني اقتصادي تمثل في الميزانية التريليونية التي ستكون ضمانة الاقتصاد المحلي في خضم حالة الذبول والانكماش التي يعيشها العالم وأخيرا قرار سياسي بمشاركة المرأة سياسيا تحت قبة مجلس الشورى وبنسبة عالية إذا ما قورنت بنظيراتها من حيث الكوتة النسوية.

هذه الخطوة التي أشاد بها العالم أجمع غص بها تيار «الماتدريوشيبون» وهم فئة محدودة جدا لكنها عالية الصوت أحيانا بسبب طبيعة حضورها في منصات الإعلام الجديد، وليس من حق أحد أن يسلب أي فئة من المجتمع رأيها.

لكن كشف التناقضات البنيوية في خطابات اللاأدرية الجديدة والتي تتلبس لبوس المعارضة دون أن تدري، مهم جدا دفعا للتضليل الذي بات سمة بارزة في أطروحات الفضاء الإلكتروني والذي أصبح بديلا عن أجواء المنشورات والكاسيت الممنوع الذي ساد مرحلة الثمانينات فما بعدها.

والحال أن السعودية اختبرت نوعين من الأطروحات المعارضة أحدها كان ينتسب إلى مستند ديني متطرف كما هو الحال منذ مرحلة إخوان من طاع الله مرورا بجهيمان ووصولا إلى موجة التكفير و«القاعدة» التي ضربت أطنابها في أواخر الثمانينات وبلغت ذروتها بعد أزمة الخليج، ويمكن القول إنه كان من السهل تمييز هذا النوع من المعارضة ودحض حججه بسبب ارتفاع منسوب الشرعية الذي كان معززا بطفرة اقتصادية هائلة وتماسك المؤسسة الدينية التقليدية التي كانت مع صعود السلفية العلمية صمام أمان ضد موجة الصحوة آنذاك.

لكن الذي لا يتم رصده عادة هو النوع الآخر من المعارضة الصامتة والتي لم تكن تأخذ زخم التيارات الإسلامية بحكم ضآلة منتسبيها وعدم قدرتهم على إيجاد طرح منهجي متماسك على مستوى النظرية أو التطبيق، فكل الأفكار التي كان يتم استيرادها كان مجرد طرحها في بيئة محافظة ونظام ملكي أمرا مضحكا أقرب إلى التهريج السياسي منه إلى الرأي المختلف، فالأفكار التي تم استيرادها في عصر الانقلابات والنظم الثورية التي شهدت هجوما كبيرا على الأنظمة الملكية ودول النفط ووصفها بالرجعية كانت تحمل تناقضها في ذاتها حيث التجارب الثورية أثمرت سجونا ومعتقلات وحتى انقلاب على الموافقين قبل المعارضين كما حصل في عهد عبد الناصر، لكن ذلك قوبل بنهضة اقتصادية وإدارية كبرى في الخليج وإن كانت بشكل متدرج، ترافقت مع حزم الملك فيصل في البداية ومن ثم حالة من المصالحة شهدت بروز الطبقة الوسطى والتكنوقراط وتحرر الصحافة التقليدية نسبيا.

واليوم تعيد الحكاية نفسها لكن بتفاصيل مغايرة، فتجد هذا التيار فرحا مغتبطا بالربيع العربي مدافعا عنه بكل ما أوتي من مكابرة، ومع ذلك لا يرى في كل الإنجازات الإصلاحية إلا مجرد رد فعل تجاه ربيعه، وإذا كان هذا متفهما من أصحاب الفكر الانقلابي لكنه لا يمكن فهمه من مجموعات تدعي أنها تدافع عن الحقوق وتسعى للإصلاح، حيث لا يمكن أن تدعم حالة الشمولية والاستحواذ على السلطات وسحق المعارضين في دول الربيع العربي باعتبارها مرحلة طبيعية لما بعد الثورة، ولا تثمن الإنجازات الكبرى اقتصاديا وسياسيا، إضافة إلى أن الاعتقاد بتأثير الربيع هو أحد أكبر أوهام التيار اللاأدري، على سبيل المثال فقط. فمشاركة المرأة في مجلس الشورى لم تكن قفزة بهلوانية في الهواء أو قرارا فوقيا هبط على سطح المجتمع، فشيطان التفاصيل يحدثنا بأن تلك المشاركة سبقتها مشاركة في انتخابات الغرف التجارية وجلسات الحوار الوطني، إضافة إلى قرارات إدارية جريئة لمن يعرف قليلا عن طبيعة المجتمع السعودي المحافظ مثل قرار استخراج البطاقة الشخصية والسجل التجاري وممارسة النشاط التجاري؛ بل يمكن اعتبار تجربة منصب نائبة وزير التعليم مرحلة تمهيدية لهذا النوع من المشاركة، وبالطبع لا يمكن التوقف كثيرا عند اللغط الذي يقال عادة حول موضوع الانتخاب والتعيين، لأن تجربة بسيطة كتجربة المجالس البلدية ومقارنة ذلك بالكفاءات التي يتم تعيينها في مقابل ما أسفرت عنه الانتخابات المحلية للمجالس البلدية من استقطابات وقوائم التزكية يمكن أن يوضح لنا حجم المغالطة السياسية والأوهام في الحديث عن التجربة السعودية.

بالطبع حالة «اللاأدرية» التي يعلو صوتها في «تويتر» سببها ضعف التثقيف السياسي بمفهوم الدولة ومقدراتها وطبيعة عملها الإداري، لكنه يعود في الأساس إلى غياب الرؤية لدى هذه المجموعات، فهي رأسمالية جشعة فيما يتصل بملف الاستثمار وسوق الأسهم، واشتراكية فيما يخص الحقوق تقترب من الشيوعية في فهم طبيعة علاقة الدولة بالتدخل في الاقتصاد حيث تطرح آراء يراد منها تحويل نظام الدولة إلى نظام ريعي كما هو الحال في نقد تجربة وزارة العمل التي أعتبرها تجربة مهمة جدا على الرغم مما ينقصها. هذه المجموعات متطرفة وأصولية ضد من يختلف معها سياسيا لكنها منفتحة جدا مع الأصولية الجديدة التي يكرسها الإسلام السياسي.

كل ما سبق لا يعني عدم وجود تحديات ضخمة وكبيرة، لكنها حتما ليست بسبب الربيع العربي ولكن لأنها استحقاقات للمرحلة التي يعيشها العالم، وقبل ذلك تحولات المجتمع ذاته حيث الانفجار السكاني ونسبة الشباب وعودة المبتعثين وملائمة سوق العمل مع مخرجات التعليم وكلها ملفات داخلية هامة، لا أحد يدعي الكمال والدولة نفسها لم تقل ذلك أبدا بدليل الحرص على مكافحة الفساد ومناشدة رأس الهرم الملك عبد الله بضرورة رفع مبدأ المحاسبة والشفافية والمسؤولية.

السعودية اليوم كما لم تكن من قبل تمضي بخطى ثابتة نحو الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري، لكنها كما لم تكن من قبل تواجه تحديات كبيرة في عالم مضطرب يعيش لحظة مفصلية من تاريخه ومنطقة تتشكّل من جديد على أنقاض جمهوريات وجماهيريات اضمحلت لأنها فقدت مسببات البقاء.

[email protected]