في عشق الآثار

TT

حديثي اليوم عن نوع فريد من العشق؛ يولد فجأة في القلب من دون سابق مقدمات؛ ربما نتيجة مصادفة أو حادثة أو موقف عارض، ورغم ذلك يبقى ويدوم ويغير مجرى حياة صاحبه ويضعه على طريق ما كان يحلم يوما أن يسلكه.

وإليكم قصتي مع اكتشاف الذات.... فبعد أربع سنوات قضيتها في قسم الآثار اليونانية الرومانية تخرجت بتقديرات جيدة لم ترقَ إلى الامتياز؛ وإلى يوم تخرجي لم أكن أعلم، أو على الأقل لم أكن أشغل فكري كثيرا بنوع الوظيفة التي يمتهنها خريج هذا القسم، حتى وصلني خطاب القوى العاملة بتعييني في وظيفة مفتش آثار بمصلحة الآثار، وكان مقرها في مبنى إداري يقع خلف المتحف المصري بالقاهرة.

وفي هذا المبنى وقبل أن يتم توزيعي على منطقة أثرية، وجدت أكثر العاملين في هذا المكان منشغلين بتدبير المكايد لبعضهم البعض، وكتابة الشكاوى. وصادقت في هذا المبنى شخصين فقط؛ الأول هو الملحن الشهير أحمد صدقي وكان يعمل رساما أثريا، والآخر هو الشاب الوسيم الدكتور أحمد الصاوي الذي ترك المصلحة بعد سنوات وأصبح فيما بعد عميدا لكلية الآداب بجامعة سوهاج.

وبسبب ما رأيته في هذا المكان قررت ترك الوظيفة والالتحاق بوزارة الخارجية، وكانت تعقد في ذلك الوقت دورات تدريبية تنتهي باختبارات لاختيار الأصلح. وبالفعل اجتزت بنجاح الاختبار التحريري في القانون والسياسة، لكني لم أوفق في الاختبار الشفوي بسبب ما ظننته في ذلك الوقت تعنتا من أحد الممتحنين. وكانت النتيجة الطبيعية هي عودتي إلى مصلحة الآثار، وهناك كانت تنتظرني مفاجأة كالصاعقة، حيث فوجئت بنقلي للعمل مفتشا لآثار تونا الجبل بصحراء المنيا، حيث الطبيعة القاسية واختفاء كل مظاهر المدنية التي تعودت عليها بعد طول إقامتي في القاهرة، وكذلك سنوات الدراسة في الإسكندرية.. ورفضت التنفيذ حتى قابلني على سلم الهيئة الدكتور جمال مختار - أول رئيس لهيئة الآثار المصرية بعد أن تحولت من مصلحة إلى هيئة – وبمجرد أن وقعت عيناه علي صاح في وجهي: «لماذا لم تنفذ قرار النقل يا أفندي؟!»، وهددنني بإحالتي إلى التحقيق إذا لم أنفذ قرار النقل.

وفي اليوم التالي وأنا في حالة من الضيق وجدت قرارا بضمي إلى بعثة حفائر كوم أبوبللو التي لم أكن حتى أعرف مكانها على الخريطة. ووجدتني داخل قطار المناشي، وكلما بعد عن القاهرة كان الغضب يزداد داخلي حتى أوشكت على الانفجار. وعندما وصلت إلى موقع الحفائر وجدت الخيام وقد نصبت لإقامة أفراد البعثة، وكذلك العمال، وكانوا من العمال المهرة المدربين على فنون الحفر الأثري والترميم، وينتمون إلى قرية قفط بمحافظة قنا بصعيد مصر، وقد تعلموا فنون الحفر الأثري على أيدي علماء الآثار الأوائل منذ أواخر القرن التاسع عشر؛ وأخذوا يتوارثون هذه الوظيفة جيلا بعد جيل، وكنت الوحيد بينهم من دون أي خبرة أو معرفة بمعنى الحفائر.

وأذكر أن ريس العمال كان اسمه الريس دكتور، ولم يكن يعرف القراءة والكتابة، لكنه عبقري في استخراج الآثار، وكان معنا الريس محمد ياسين أعظم المرممين المصريين الذين رأيتهم في حياتي... ومع هذين الرجلين كنت على موعد مع الحادثة التي غيرت مجرى حياتي.. وكان يوما صحوا من شتاء مصر، وقد ملأت الشمس المكان، ونشرت فيه الدفء والإحساس بالأمان، وكنت أستعد للذهاب إلى محطة القطار عائدا إلى القاهرة حينما دخل الخيمة الريس دكتور، وبكل ثقة واحترام وجدته يخبرني بأنهم عثروا على مقبرة جديدة؛ ومشيت خلفه ونزلنا معا إلى حفرة عميقة، وبدأت في إزاحة الرمال لتحديد حدود الدفنة، والريس دكتور يرشدني ويعطيني من خبراته، وفجأة انزاحت الرمال عن تمثال من الفيانس الأخضر البديع لربة الجمال عند الرومان أفروديت، وأخذت أنظف التمثال بالفرشاة، وعندما حملته من الرمال خفق قلبي ووقعت في عشق هذا العمل، وقلت في نفسي لقد عثرت على حبي.. ومن هذا اليوم والآثار هي حياتي وعشقي.