إيران «توجه» ملياراتها إلى نظام الأسد وحزب الله

TT

يتفق السياسيون الأوروبيون على أن إيران بفعل المقاطعة الدولية تتآكل من الداخل. ويوم السبت الماضي نشرت صحيفة «التايمز» البريطانية مقالا عن تململ في صفوف الجيش الإيراني بسبب إلغاء الخدمات الأساسية من وجبات طعام ووسائل نقل مجانية (باستثناء كبار الضباط)، وإبلاغ الجنود أن لا يتوقعوا الشهر الثالث عشر الذي كانوا يقبضونه في بداية شهر مارس (آذار) من كل عام بمناسبة عيد النوروز (رأس السنة الفارسية).

صحيفة «الغارديان» كتبت بدورها صباح الاثنين الماضي أن العقوبات أثرت على استيراد إيران للأدوية، في هذه القضية بالذات تنكشف الأولويات الملتوية للنظام الإيراني. إذ على الرغم من الزيادات في الإيرادات السنوية البالغة 30 مليار دولار من صادرات النفط، وأكثر من ثلاثة أضعاف هذا المبلغ في احتياطي العملات الأجنبية، والتصريحات الإيجابية لوزراء الحكومة الإيرانية، فإن النظام الإيراني لا يبذل أي جهد لمساعدة المواطنين. وبدلا من تحديد الأولويات الأساسية للميزانية، فإنه يستغل العقوبات الدولية ككبش محرقة لتعميق معاناة الشعب الإيراني، وآخر نموذج عن أولويات النظام الملتوية، هو الرعاية الصحية في إيران التي تتدهور بسرعة، كما أن الكثير من الناس يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل.

في الثامن من الشهر الماضي، طلبت وزيرة الصحة الإيرانية مرضية وحيد دستجردي (طردها الرئيس محمود أحمدي نجاد من منصبها في 28 ديسمبر (كانون الأول)، أي بعد عشرين يوما) من البنك المركزي الإيراني تخصيص مبلغ 2,5 مليار دولار بشكل عاجل، لاستيراد الأدوية لمعالجة ستة ملايين مريض يعانون من أمراض تهدد الحياة، مثل الهيموفيليا (مرض في الدم) والسرطان والتلاسيميا. ومع ذلك وحتى الآن فشلت السلطات الإيرانية في تخصيص الأموال اللازمة لاستيراد الأدوية المنقذة للحياة.

إن سبب عدم استيراد إيران للأدوية الملحة لمرضاها واضح ومباشر، ويكشف عن أسوأ نوع من السياسة المتبعة في ما يتعلق بالشعب الإيراني.

يسعى النظام، في كل منعطف، إلى تضليل الشعب الإيراني وجعله يشعر بأن كل المشكلات التي يواجهها سببها تدخل القوى الخارجية في الشؤون الداخلية الإيرانية.

من هنا، إبلاغ فاطمة رفسنجاني رئيسة «رابطة الأمراض المستعصية» أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون بأن النقص في العلاج الطبي هو نتيجة العقوبات الدولية. لكن على الرغم من تصاعد العقوبات الدولية ردا على التعنت الإيراني لا يوجد أي قرار على الإطلاق يمنع النظام من تصدير أو استيراد الأدوية الحيوية.

في الواقع، قد تكون قراءة خاطئة للوضع، إذا كان التصور بأن فشل إيران في تخصيص الأموال اللازمة التي طلبتها وزيرة الصحة المقالة يعود إلى فرض العقوبات الدولية.

في الحقيقة، هناك موارد مالية ضخمة تحت تصرف السلطات الإيرانية، فخلال السنة الماضية فقط، ازدادت عائدات النفط 28 مليار دولار أو 36% (سنة 2011 – 2012 بلغت عائدات النفط 108,9 مليار دولار، مقارنة مع سنة 2010 – 2011 حيث بلغت 80,1 مليار دولار).

علاوة على ذلك، وحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، فإن لدى إيران من احتياطي العملات الأجنبية والذهب ما مقداره 101,5 مليار دولار. فكيف يمكن لهذه الزيادات في الإيرادات التي تبلغ 130 مليار دولار أن تعجز عن تخصيص مبلغ 2,5 مليار دولار قيمة أدوية حيوية لتحسين وربما إنقاذ حياة ستة ملايين إيراني؟ إنه تبرير أبعد من أي منطق اقتصادي. وعلى ما يبدو فالمسألة ليست اقتصادية وإنما سياسية.

وفي محاولة للحفاظ على الاستقرار الداخلي، بدأت السلطات الإيرانية نشر البيانات عن الواردات الطبية، مع إبقاء جدار من الصمت المطبق حول انهيار معظم الميزانية الوطنية. على سبيل المثال، أعلن المصرف المركزي الإيراني في أوائل شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عن تخصيص مبلغ 750 مليون دولار للواردات الطبية. بعد عدة أسابيع أعلن حسين علي شهرياري رئيس اللجنة الصحية في مجلس الشورى عن رغبة إيران في استيراد أدوية بقيمة 130 مليون دولار. وفي حين تبدو هذه المبالغ كبيرة فإنها أقل بكثير من المبلغ الذي طالبت به وزيرة الصحة التي أقالها أحمدي نجاد. ثم إنه ليس واضحا ما إذا كانت هذه المبالغ استخدمت فعلا لاستيراد الأدوية.

إن انعدام الشفافية حول كيفية تدفق المليارات من الدولارات على خزينة النظام أمر صارخ ويمكن وصفه بـ«الثقب الأسود».

هذا «الثقب الأسود» العملاق يبدو أنه يتكفل برعاية حلفاء إيران وفي طليعتهم نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا و«حزب الله» في لبنان. أما الذين يعانون المعاناة الكبرى فهم الإيرانيون نتيجة حالة يائسة لعدم إيجادهم الرعاية الصحية اللازمة، أو لمحاولتهم البحث عن طريقة لتأمين الاحتياجات الأساسية لأسرهم.

ومع سبعة ملايين عاطل عن العمل في إيران اليوم والبطالة في تصاعد، ومع فقدان الناس ثقتهم بالحكومة إن كان لجهة تأمين الدواء أو إيجاد فرص عمل، تعلو بين حين وآخر ضجة إعلامية عن خطط تضعها الحكومة لإعادة الإيرانيين إلى العمل، آخرها الوعد بتأمين 1,3 مليون وظيفة في شهر مارس المقبل. لكن التصريحات المتضاربة من مختلف المسؤولين الإيرانيين تجعل من الصعب على الإيرانيين أن يصدقوا أن هناك رغبة حقيقية في مساعدتهم.

أيضا، في خطوة لتطويق غضب الإيرانيين العاطلين عن العمل، والخوف من امتداده إلى قطاعات أخرى، أعلن داود قادري العضو في المجلس الأعلى للتوظيف، في الثالث من الشهر الماضي، عن تخصيص مبلغ 1,96 تريليون ريال (نحو 160 مليار دولار) لتعزيز فرص العمل في العام المالي الحالي 2012 – 2013. هذا الرقم ومع التشجيع الذي رافقه تم تقويضه من مسؤولين آخرين في حكومة أحمدي نجاد.

هشاشة وعد آخر شبيه بهذا أطلقه العام الماضي (يناير «كانون الثاني» 2012) نائب رئيس المجلس محمد رضا باهونا، إذ قال: «هناك خطة لاستثمار 200 مليار دولار لاستيعاب الملايين من العمال الجدد في السنة، لكن في الواقع ليس في حوزتنا إلا 80 مليار دولار»!

وبعد المناقشات ما بين وزارة المالية والمصرف المركزي في ما يتعلق بتلك الخطة، تم في شهر يوليو (تموز) الماضي التخلي عن مبلغ 37 مليار دولار للمجلس الأعلى للتوظيف، وفقا لتصريح نائب وزير العمل محمد حسين بوروزانمير.

من حق الإيرانيين أن يسألوا عما إذا كانوا سيرون «ثمار» الـ160 مليار دولار أو الثمانين مليارا أو 37 مليارا لتخفيض نسبة البطالة. كثيرون يشعرون بأن التوقعات قاتمة، وأن المليوني إيراني الذين طردوا، أو تم الاستغناء عن خدماتهم، كما قال محمد اتادوريان من جمعية رجال الأعمال في المجلس الأعلى للتوظيف، يعرفون بأن كل وعود الحكومة فارغة، كون معدلات البطالة تنذر بالخطر وهي أعلى كثيرا مما تدعيه الحكومة، بحيث تصل إلى 31% وليس كما تقول إنها ما بين 12 و13%.

من خلال مراقبة أوضاع قطاعي العمل والصحة، يبدو حتما أن أولويات القيادة الإيرانية ملتوية جدا. إذ على الرغم من عائدات النفط الكبيرة، واحتياطي العملات الأجنبية، فإن النظام يهمل شرائح كثيرة من الشعب.

في الوقت نفسه، يصر الناطقون باسم الحكومة على خداع الناس، وتعزيز أمل كاذب عبر بيانات وهمية وخطط ليس فيها أي مضمون فعلي.

تريد إيران أن تقول للعالم إن العقوبات تطال الشعب وليس النظام. إلى متى يمكن لهذا الوهم أن يستمر؟ هذا هو السؤال الرئيسي الذي ستواجهه إيران هذا العام.