«ربيع الأردن» أزهر ورودا وإصلاحات وانتخابات قريبة جديدة

TT

بات يفصل الأردن عن الانتخابات البرلمانية الجديدة، التي بقيت موضع رهان داخلي وخارجي، وبقيت مادة تجاذب وجهات نظر متعارضة متعددة، خمسة أيام فقط. فقد غدا مؤكدا أن هذه الانتخابات ستجري يوم الأربعاء المقبل، وأنها ستكون بداية مرحلة جديدة يجمع الأردنيون على أنها ستقفز ببلدهم قفزة نوعية فعلية وحقيقية، ستضعه على رصيف الدول المتقدمة اجتماعيا وسياسيا، التي دخلت الألفية الثالثة مع مطلع هذا القرن الجديد.

كانت التقديرات أنه مع بدء هبوب رياح «الربيع العربي» ووصول عواصفه إلى هذا البلد سوف ينقسم الأردنيون بين من سيركب موجة صراخات الشوارع وزمجرات جماعة الإخوان المسلمين، وبعض القوى الصغيرة التي لحقت بهؤلاء، وبين من سينحاز للنظام «ظالما ومظلوما»، وحقيقة إن هذا لم يحدث، وهو لن يحدث؛ فالأردنيون من أصل فلسطيني أبدوا تمسكا بالنظام، ربما أكثر من «الأردنيين» أنفسهم، وذلك مع أن أولئك وهؤلاء أظهروا تأييدا واسع النطاق للإصلاح، وأنهم جميعهم ما زالوا يريدونه ويصرون على تحقيق ما لم يتحقق منه.

إن هذه مسألة في غاية الأهمية؛ فقد ظن «الإخوان المسلمون»، وقد اعتقد بعض المراقبين من الخارج، وحتى على مستوى الدول العظمى، أن الأردنيين من أصول فلسطينية، وبخاصة أبناء المخيمات الذين يشكلون نسبة كبيرة من سكان الأردن، سوف يندفعون، ولأسباب كثيرة، لركوب موجة الربيع العربي، وأنهم سيكونون المستودع البشري لتغذية المظاهرات الأسبوعية التي دأب «الإخوان» وحلفاؤهم على دفعها إلى شوارع عمان وساحة مسجدها الرئيسي «المسجد الحسيني» بشعارات تجاوزت الخطوط الحمراء، وطالب بعضها ليس بإصلاح النظام، ولكن أيضا بإسقاطه.

لكن هذا لم يحصل، وهو لن يحصل، والسبب أن هؤلاء ومعهم غالبية الأردنيين «من شتى المنابت والأصول»، قد أخذوا مما جرى في غزة ولا يزال يجري، بعد انقلاب قادة حماس في عام 2007 على إخوانهم في حركة فتح وفي منظمة التحرير والسلطة الوطنية، درسا تأكدوا من خلاله أنه إذا وصل «الإخوان المسلمون» إلى الحكم في الأردن فإنهم سيحولون هذا البلد إلى غزة ثانية، وأنهم سيفقدون الاستقرار الذي بقوا يعيشونه في كنف النظام الملكي المتسامح، وفي أحضان المملكة الأردنية الهاشمية، وأنهم سيفقدون أيضا ما يتمتعون به من أوضاع اقتصادية مريحة، وذلك رغم أن هذا البلد بقي يتعرض منذ أعوام سابقة لأزمة طاحنة على هذا الجانب وعلى هذا الصعيد.

وأكثر من هذا فإن ما جعل الأردنيين بكل منابتهم وأصولهم، ومن بينهم أبناء المخيمات، أكثر عقلانية، وأشد رفضا لشعارات «الإخوان المسلمين»، وللشعارات المتطرفة التي رفعها بعض الشبان «المتحمسين»، أنهم بقوا يشاهدون ويوميا على شاشات الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى المذابح المرعبة التي بقي يرتكبها نظام بشار الأسد ضد شعب من المفترض أنه شعبه، وأنهم بقوا يشاهدون كل الويلات التي جرت في ليبيا، وكل الصراع الاجتماعي الذي جرى ولا يزال يجري إن في تونس وإن في مصر.

وحقيقة، وهذا يجب أن يقال، إن ممارسات تيارات الإسلام السياسي: «الإخوان المسلمون» في مصر، وحزب النهضة في تونس، ومناوراتهم وتكالبهم على السلطة، وأيضا نزعتهم الشمولية والاستحواذية، كانت ولا تزال مضرب مثل سيئ بالنسبة للأردنيين الذين، بصورة عامة، كانوا يتوقعون من هؤلاء تصرفات عاقلة وراشدة، والذين قد رأوا كل هذا الذي رأوه، والذي ما زالوا يرونه، قد ازدادوا حرصا وازدادوا تمسكا بنظامهم الذي ربما لهم ملاحظات كثيرة عليه، لكنهم ازدادوا اعتقادا بضرورة الحرص على عدم استبدال مجهول لا يعرفونه به، وازدادوا قناعة بإمكانية البناء على الإصلاحات التي تمت خلال العامين الماضيين، وبالوسائل السلمية والديمقراطية، وحتى الوصول إلى ما يريدونه ويفكرون به، وإلى ما ترنو إليه الأجيال الصاعدة.

إن هذه مسألة رئيسية كان لها تأثيرها الكبير على الأردنيين، وهنا فإن مما زاد في ابتعاد «الإخوان المسلمين» عن إحساس الشارع الأردني، وعدم إدراكهم لمخاوف الأردنيين، من كافة المنابت والأصول، أنهم لم يكتفوا بالصمت على ممارسات ومناورات وألاعيب «إخوانهم» في مصر، بل هم لجأوا أيضا إلى الدفاع عن أخطاء هؤلاء، وكأن الدكتور محمد مرسي رئيس لهم وللتنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» وليس رئيسا لمصر وللشعب المصري؛ بمعارضته وبموالاته، وبأغنيائه وفقرائه، وبكل صاحب رأي في هذا الشعب، بغض النظر عن صحة أو عدم صحة رأيه.

ومقابل أنهار الدماء التي سالت والتي لا تزال تسيل في سوريا، ومقابل ما فعله نظام حسني مبارك ونظام زين العابدين بن علي.. وأيضا معمر القذافي في مواجهة انتفاضة الشعب المصري والشعب الليبي، فإن الأردنيين قد أدركوا ومبكرا معنى ومغزى حرص نظامهم على عدم إراقة ولو قطرة دم واحدة من أي أردني، كما أنهم أدركوا معنى أن الأجهزة الأمنية الأردنية بصورة عامة قد أظهرت انضباطا شديدا بالابتعاد عن أي شكل من أشكال البطش والقمع، وأن الأوامر التي كانت تصلها من الملك عبد الله الثاني نفسه بأن وظيفتها الأساسية هي حماية الشعب الأردني وحماية المتظاهرين، وأنه عليها أن تتحلى بالصبر وبطول النفس، وألا ترد على كل محاولات استفزازها لتلجأ إلى استخدام العنف بكل أشكاله.

والمفترض هنا أن كل المتابعين للشأن الأردني وللتطورات الأردنية خلال العامين الماضيين قد لاحظوا أن الملك عبد الله الثاني، بالإضافة إلى حرصه الشديد على تجنب أي شكل من أشكال العنف، وحرصه على إنجاز إصلاحات حقيقية، من بينها المحكمة الدستورية العليا والهيئة العليا للإشراف على الانتخابات، ومن بينها أيضا شن حرب على الفساد والمفسدين، قد حرص على التواجد المستمر بين أبناء شعبه في مدنهم وقراهم ومخيماتهم وبواديهم، وأنه قد حرص أيضا على أن يكون قريبا من الفئات الشابة في المجتمع الأردني، وأن يقيم مع الكثيرين منهم علاقات صداقة حقيقية وفعلية.

ويقينا لو أن عاصفة «الربيع العربي» عندما وصلت إلى الأردن وجدت بلدا مأزوما وشعبا محتقنا، كما كان عليه الوضع في مصر وتونس وليبيا.. وكما لا يزال الوضع عليه في سوريا، لما استطاع هذا البلد الذي يعاني أزمة اقتصادية طاحنة وموجعة أن يستوعب هذه العاصفة الهائلة، ولما تمكن من الاستجابة لمعظم ما جاءت به من استحقاقات ومطالب، ولما استطاع أن يجنب شعبه ما حل ببعض الشعوب العربية الشقيقة، وكل هذا مع تحقيق إنجازات إصلاحية أساسية ورئيسية، ووضع الأقدام على بداية الطريق نحو المزيد من هذه الإنجازات، وحتى الوصول إلى الدولة العصرية التي يستحقها هذا الشعب.

إن هذا هو واقع الحال، وإن وجود حريات عامة وتعددية سياسية وحزبية، وإن ليس بالصورة التي يريدها ويسعى إليها الشعب الأردني، قد جعلت الأردن يستقبل عواصف «الربيع العربي» استقبالا سلسا، وقد جعلت الأردنيين، شعبا ونظاما، يحرصون حرصا شديدا على الابتعاد عن العنف، وعلى تغليب فضيلة الحوار والتفاهم على التباعد والتباغض وعلى المناكفات؛ ولهذا فإنه بالإمكان القول، وبلا تردد، إن هذا البلد الذي يواجه مشكلة اقتصادية طاحنة، قد تمكن من تحويل هذا الربيع العربي العاصف إلى ربيع أردني مزهر، وإلى التباهي بأنه على مدى عامين من التظاهر و«الحراكات» التي من غير الممكن حصر عددها، لم تسقط من أي أردني ولا قطرة دم واحدة، وإن الإصلاح بقي متواصلا، وهو بالتأكيد سيبقى متواصلا بعد الانتخابات البرلمانية التي ستجري يوم الأربعاء المقبل.