العالم العربي والتنمية!

TT

أصبح العالم قرية كونية، اختزل فيها الزمان والمكان، ويصعب فيها تجنب سرعة انتشار عدوى الأوبئة السياسية والاقتصادية وغيرها. فالأزمات السياسية التي يواجهها العالم العربي اليوم تمثل أحد هذه الأوبئة، بأعراضها المفاجئة والمتسارعة، وتعد من أخطر الأزمات التي مر بها العالم العربي منذ جلاء المستعمر عن التراب العربي. وإذا كان البعض في عالمنا العربي اليوم قد تمكن بالتنمية الاقتصادية أن يتخلص من الكثير من الأمراض الوبائية التي حصدت في الماضي آلاف الأرواح، كوباء الجدري والطاعون والكوليرا وغيرها - فإنه ما زال يدور في حلقات مفرغة عند مواجهته اليوم تلك الأوبئة السياسية الجديدة، المتمثلة في الصراعات الطائفية والعرقية والفكرية التي فاقت نظيراتها الصحية السابقة في حصد الأرواح وإهدار الموارد المادية والبشرية.

ولا شك في أن التنمية الاقتصادية تظل القضية الأولى في العالم العربي، كما هي قضية كل المجتمعات في الدول النامية. إلا أن اختزال التنمية في الجانب المادي الاقتصادي، وإعطاء هذا الجانب الحظ الأكبر من الاهتمام والتركيز، يزيد من صعوبة تعزيز التنمية واستمراريتها بمفهومها الشامل، مما ينتج الكثير من الآثار السلبية.

وإلى سنوات قريبة، كان العالم قائما على التوازن والتنافس، بين (آيديولوجيتين) متنافرتين، هما الشيوعية والرأسمالية، بعدها انهارت الشيوعية، لتقف الرأسمالية - صاحبة آليات السوق الحرة والمؤسسات وسيادة القانون - وحدها في الميدان، مما حتم على الدول العربية (رغم تفاوت دخلها الاقتصادي) أن تتلمس طريقا جديدا للتنمية، في ظل ظروف متغيرة، وفي ظل عولمة الاقتصاد وثورة الاتصالات وتنافسية الأداء بين الدول، بصورة لم يشهد التاريخ لها مثيلا.

وإذا كان العالم هو تاريخ اقتصادي، فإنه - قبل كل شيء - تاريخ إنساني أيضا. فكل ما يخطط له من تنمية اقتصادية لا بد أن يتزامن مع تنمية اجتماعية وتشريعية، وتقنية تواكب وتتعامل مع هذا التطور والنمو. وللإرادة السياسية - في الدول العربية - دور مهم في خلق البيئات المناسبة للتنمية المتكاملة وضمان استمراريتها، ولعل من أهم تلك البيئات بيئتين:

إحداهما: البيئة الاجتماعية والفكرية، ذلك أن العوامل الاجتماعية والفكرية والثقافة السائدة في بعض الدول العربية، تتدخل كثيرا في نجاح التنمية الاقتصادية أو فشلها. ومن مسببات الفشل، وجود بعض الأوبئة السياسية المعيقة والمتجذرة في المجتمع، بل وفي الفرد المسؤول، مما يتطلب العمل الدؤوب من قبل السياسي، لعدم السماح لتلك الأوبئة السياسية المعيقة، من طائفية وعرقية ومناطقية أو فكرية منحرفة، بأن تنتشر في جسم المجتمع والدولة وتؤثر على خططها لتحسين أداء الاقتصاد، وتحقيق التنمية المتكاملة، المعززة للاستقرار الأمني والفكري المتمثل في قيم الاعتدال والتسامح، المساندة لتلك الخطط التنموية.

ثانيهما: البيئة التقنية وتطبيقاتها، من خلال الإبداع في سياستها التنموية والربط بين الوظائف الحكومية التخطيطية والرؤية الاستراتيجية للتنمية - تلك الرؤية التي تركز على دور الإبداع التقني وتشجيع الدراسات العلمية، ذات الطابع التكنولوجي التطبيقي. وفي ظل غياب هذه الرؤية، تنظر بعض الدول العربية – ومؤسساتها الإدارية - إلى الاستثمار في مجال العلوم والتقنية، على أنه تكلفة إضافية وزيادة في الأعباء.

ومن يتأمل بعض الدول العربية خلال العقود الماضية يجدها حققت نموا اقتصاديا جيدا، لا يمكن أن ينكره أحد (تونس نموذجا). إلا أن ذلك لم يمنع النظام التونسي من أن ينهار في أيام معدودات، وذلك لأسباب عدة أهمها: غياب العدالة الاجتماعية، ومصادمة المجتمع في ثوابته العميقة، خاصة الدينية منها. لذا، نحن في العالم العربي نجد أنه من الصعب تحديد ما إذا كانت التنمية الاقتصادية وحدها هي الحل للأوبئة السياسية التي تعانيها بعض مجتمعاتنا العربية، بعيدا عن علاج التذبذبات الفكرية والصراعات الطائفية والعرقية وضعف التنمية الاجتماعية وعدالتها والأداء البيروقراطي المعيق.

إن وجود القيادات السياسية - المدركة لأهمية تلك البيئات وتأثيرها على مسار التنمية - على رأس هرم الدولة، يعد أمرا في غاية الأهمية، لتمكن دولها من تعزيز تقدمها التنموي من خلال سن القوانين والأنظمة الصارمة لبسط سيادة القانون، مصحوبة بإرادة سياسية حازمة في المتابعة والمحاسبة. هذا إذا أرادت دولنا العربية أن تنجح كثيرا في الحد من انتشار تلك الأوبئة السياسية القاتلة، لتتمكن من تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة!