النخبة العربية خائبة

TT

أحسنت الشعوب العربية صنعاً، أنها تجاوزت نخبها، وأحرجت مثقفيها وأخرجتهم من اللعبة، وإلا لكان بن علي ومبارك والقذافي، ومعهم علي عبد الله صالح، ما يزالون على عروشهم، ومن حولهم المثقفون يتفلسفون وينظِّرون.

زبدة المثقفين العرب كانت قد اجتمعت الأسبوع الماضي في ندوة نظمها «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» في الكويت ضمن «مهرجان القرين الثقافي» السنوي. وبتنسيق من الدكتور محمد الرميحي، حضر نجوم العرب وكتابهم ليدلوا بدلوهم حول «ارتدادات الربيع العربي». ظننت للوهلة الأولى أنها الفرصة التي لا تفوت، كي يفهم واحدنا ما الذي يجري في كل بلد، ويسمع من أرهاط القوم، ما عجزت عنه التلفزيونات ووسائل الإعلام، المتهمة بالتضليل والانحياز، وهي ليست بريئة، تماماً، مما ترمى به.

ليس من الإنصاف في شيء إنكار جهود البحاثة الذين قدموا أوراقاً ودراسات قيمة، سواء لجهة المراجعات التاريخية لما حدث في بلادهم أو لناحية تصوراتهم لما سيحدث في المستقبل. تبقى المشكلة في تقييم الحاضر، وتوصيف القائم.

من الغريب حقاً أن يتحدث الدكتور أسعد مصطفى، وهو الذي كان وزيراً للزراعة في سوريا ومحافظاً لمدينة حماه، واليوم على تماس مباشر بالعمل الميداني للمعارضة وكأنما الثورة السورية منزهة، شفافة، بيضاء ناصعة كالثلج. أو كأن الجيش الحر وحدة متماسكة لم ترتكب خطأ أو تقترف ذنباً. بدا الدكتور مصطفى أكيداً من أن لا طائفية في سوريا على الإطلاق إلا طائفية النظام، وأن شبح التقسيم لا يمكن أن يخيم على البلاد. لا أدري من أين أتى الدكتور مصطفى بهذا اليقين، رغم أن التلفزيونات الفرنسية باتت تبتعد عن استعمال كلمة «ثورة» لتوصيف ما يحدث في سوريا مستبدلة بإياها مصطلح «حرب أهلية»، والصحف الأميركية تنقل أخبار الاقتتال الطائفي، فيما المفوضة العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة نافي بيلاي، تتحدث بأسى عن جرائم ضد الإنسانية ارتكبها كل الأفرقاء، وتصر على إجراء تحقيقات دولية لمحاسبة كل الجناة والمجرمين. أما عن التقسيم فالجميع يدرك اليوم، أنه بات يهدد ليس سوريا وحدها وإنما العراق ولبنان والأردن، وغيرها أيضا.

مشاركات الباحثة الليبية سعاد الوحيدي، رسمت صورة عن ليبيا وردية إلى حد يجعل المستمع يشتهي الذهاب إلى طرابلس اليوم قبل غد، لقضاء رحلة استجمام بين ربوعها، مع علمنا جميعاً أن التجاوزات ما زالت كارثية هناك، ومآسي فوضى السلاح تهدد المواطنين في عيشهم. من حق الليبيين أن يحتفوا ويفرحوا بذهاب طاغية أنهك أعمارهم طوال 42 عاماً، ومفهوم أن تتنفس سعاد الوحيدي - التي رأت فظائع كتائب القذافي - الصعداء، لكن من حق الثورة على مثقفيها أن يكونوا لها ناقدين لا مبجلين، مصلحين لا مهادنين. ما قيل عن مصر لا يختلف كثيراً؛ فالشهادة المؤثرة لثروت الخرباوي الذي استقال من جماعة الإخوان المسلمين اعتراضا، عكست وجهة نظر أحد الخارجين عن سرب هو اليوم الأقوى والأعتى في مصر. بقي أن كل الكلمات الأخرى من مداخلات ومشاركات أعطت انطباعاً وكأنه لا مشكلة في مصر غير وصول الإخوان إلى الحكم، مع أن العثرات أكبر من أن تحصى. كان حريا السؤال عما يمكن أن يفعله أي حاكم في مصر يصل إلى السلطة بالأفواه الجائعة، والديون المتراكمة، واتفاقية السلام المكبلة؟ وإسرائيل المتربصة، وأميركا المتسلطة؟ المصاعب كثيرة، ووصول أي فئة إلى الحكم ما كان ليمر سهلا سلسبيلاً، والبلاد على حافة انهيار اجتماعي واقتصادي.

ما زال صعباً على الباحثين الإحاطة بكل هذا الجنون الذي يحيط بهم، أو يفهمون ماهية ما تتعرض له بلادهم، أو يرصدون بعملية دقيقة مدى التدخلات الخارجية ونسبة التفاعلات الداخلية النابعة من ذهنية الشعب الخالصة، وبنيته الفكرية الذاتية. صدمة الثورات ما زالت طازجة واستيعابها يحتاج وقتاً.

صحيح أن الصورة ما زالت ضبابية والرؤية متعكرة، لكن تحديداً لهذا السبب الوجيه والجوهري، تصبح عقلانية المثقف حاجة، وصدقه مع نفسه وشعبه ضرورة، وتناوله الثورة التي يحبها، ويعلق عليها كل آماله بالنقد والتشريح الموجع، أم المهمات وأباها.

لعل أفضل المداخلات كانت تلك التي تناولت المجتمعات العربية من الناحية السوسيولوجية. وهي فرصة لنطرح سؤالا حول دور علماء الاجتماع العرب، وعلماء النفس معهم، وهم الغائبون والمغيبة دراساتهم وآراؤهم عن الإعلام. فبالدراسات السوسيولوجية يفهم الغرب مكامن ضعفنا ويخترق مجتمعاتنا. إنهم يدرسون أدبنا، ومحادثاتنا اليومية، ومكالماتنا التلفونية، ومفرداتنا ومصطلحاتنا، وأغنياتنا كما يحللون أحلامنا وترهاتنا على الـ«فيسبوك» و«تويتر»، ليعرفوا من أي الثغرات ينفذون إلى أرواحنا.

كان شبة إجماع بين المثقفين الحاضرين، على أن الثورات العربية سرقت ممن صنعوها وناضلوا من أجلها. ولا خلاف بينهم على أن التدخل الأجنبي يفعل الكوارث في المنطقة كلها. لكن السؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا بعد كل ما سمعنا، أين هي النخبة؟ وما هي أدواتها؟ وما الحلول التي تقترحها؟ إن لم يكن كل ذلك ممكناً فليتجرأ المثقفون العرب، ويطرحوا الأسئلة الصحيحة على أنفسهم، بدلا من أن يعتبر كل مثقف أنه يمتلك الأجوبة، ويعرف الماضي، وبمقدوره أن يقرأ المستقبل.