سياسة المالكي ومقتضيات الدستور

TT

في الدولة القانونية ليست الشرعية هي الفيصل بينها وبين الدولة غير القانونية، بل المشروعية هي الفيصل؛ فليس المهم الفاصل أن يأتي الرئيس وفقا لآليات دستورية بل المهم الفاصل لكي تكون الدولة قانونية، وتصرفاته دستورية، أن يتقيد الرئيس بالدستور نصه وفحواه وروحه دون لف أو دوران، ولما كان السيد المالكي قد لفظ الدستور ولم يعد يتقيد به أو يحترمه لا في نصوصه الفاعلة العاملة ولا في روحه؛ فإن دولته تصبح في هذه الحال دولة انقلاب على المشروعية والدستورية، فكيف له أن يتهم خصومه بانتهاك الدستور؟

ولا شك أن اتهاما مثل هذا لا يصح ولا يصدق دون براهين قاطعة وشهادات ثابتة، وهذه ما سنأتي عليها تباعا ونعرض أخطر الانتهاكات التي تجري للدستور علنا في مكتب رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة:

أولا: السيد رئيس الوزراء يعلم أن الدستور العراقي الاتحادي لم يخول له صلاحية القيام بأي أمر سوى مسؤولية التنفيذ للسياسة العامة للدولة التي لا يضعها هو بل مجلس الوزراء، وإدارة مجلس الوزراء وترؤس اجتماعاته (المادتين 78 و80)، ولكنه تخيل أن صفة القائد العام للقوات المسلحة، كما جاء في المادة 78 تمنحه فرصة الاستبداد بمثل ما فعل القائد العام في النظام البائد فقاد مجلس الوزراء بعقلية القائد العام، وقاد الجيش بعقلية ديكتاتور دون أن يدري أن الدستور قد قلّم أظافر القائد العام، بحيث لم يمنحه هذه الفرصة؛ ففي الحالين لم يلتزم بالخارطة التي وضعها الدستور له، لا سيما فيما يتعلق بصفته القائد العام للقوات المسلحة. ولتوضيح هذه النقطة نقول:

إن ميزة هذا الدستور العراقي الاتحادي هي أنه كان حريصا على الحيلولة دون نشوء ديكتاتورية جديدة في العراق الذي عانى الأمرين منها طوال عقود، والمثال على هذا الحرص هو أنه جعل دولة العراق الجديد دولة اتحادية تتوزع فيها السلطة بين الأقاليم والمحافظات والأولوية لقوانينها، كما تتوزع الثروة فيها بعدالة رقمية دون تفاوت، وأنشأ الجيش من المكونات بعدالة رقمية أيضا حتى لا يتفرد حزب أو مكون بتكوينه (المادة 9)، وفيما يتعلق بالصفة التي يتشبث بها في ممارساته غير الدستورية (القائد العام للقوات المسلحة)، فإن الدستور لم يخول له صلاحية تعيين قائد فرقة أو معاون لرئيس أركان الجيش، ناهيك عن رئاسة الأركان، فما الذي بقي للقائد العام؟

ثم لا يجوز له أن يعلن حالة الطوارئ أو إعلان حرب، فهذه من صلاحيات مجلس النواب بأغلبية الثلثين (المادة 61 تاسعا)؛ فكيف أنشأ قوات دجلة في غالبيتها العظمى من المكون العربي؟ وكيف حركها لإثارة فتنة بين العرب والكرد المتآخين؟ فهل هذا ناشئ من دستور العراق الاتحادي، أم هو نسخة طبق الأصل من دستور صدام؟

ثانيا: منذ تسلم السيد نوري المالكي منصب رئيس الوزراء وحلفه اليمين على الحفاظ على العراق الاتحادي الديمقراطي واستقلال القضاء، يسعى بشكل منظم لإفراغ النظام الجديد من محتواه التعددي الفيدرالي والديمقراطي حتى وصلت به الحال أخيرا إلى التصريح علنا بما كان يخفيه مدة، وهو إقامة عراق غير تعددي وغير اتحادي وغير ملتزم بمعايير حقوق الإنسان، بل عراق على غرار عراق صدام، عراق مركزي شديد التركيز، تكون الأغلبية التي تمثله أغلبية كتلته ذات اللون الواحد واللسان الواحد والميل الواحد وليذهب الآخرون إلى الجحيم بتهمة الإرهاب الملعون. وإن كنت في شك من ذلك، فتأمل في هذه الوقائع التي جرت في ظل هذا الدستور الاتحادي التعددي الفيدرالي، ولا تزال تجري:

1 - دولة السيد رئيس الوزراء لم يتجه إلى إعادة بناء متماسك للعراقيين يراعي خصوصياتهم دون تمييز كما هو مقتضى الفيدرالية، بل اتجه إلى بناء جيش قوي تكون ركيزته هيمنة مكون معين يرتاح إليه السيد رئيس الوزراء، أي دون مراعاة التوازن بين مكوناته كما هو واجب دستوري، وهذا ما شاهده العراقيون في عمليات دجلة وزمار. ألا تجدون الصورتين متشابهتين إلى حد بعيد؛ صورة جيش صدام، وصورة جيش نوري المالكي، لولا أن الظرف قد اختلف لصالح الشعوب؟!

2 - كان ينبغي، على سبيل الفرض واللزوم لا على سبيل الندب بمصطلح الشرع الإسلامي، على الحكومة الاتحادية التي استولى على مقاليدها السيد نوري المالكي أن تبادر إلى مشاريع قوانين تفعل مبادئ الدستور على الأرض، وتقيم هيكلية المؤسسات الفيدرالية، كالهيئة العامة لضمان حقوق الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في قانون بموجب المادة 105 من الدستور، ومثل الهيئة العامة لمراقبة تخصيص الواردات الاتحادية بموجب المادة 106 من الدستور، وكان ينبغي أيضا أن تشجع توسيع الفيدراليات لتعميق الحريات واستخراج الكفاءات المدفونة في أعماق الفرد العراقي المكبوت، ولكن السيد المالكي لم يفعل كل ذلك، بل قاوم رغبة إقليم البصرة صاحب أكبر مخزون معرفي ومادي في العراق في الاستقلال المحلي. أليس من العيب المخزي أن تكون البصرة العملاقة أقل إنتاجا في الأدب والعلوم والحضارة وموجبات الرفاه من جاراتها الأقل حجما في الواقع والتاريخ؟! كما قاوم رغبة المناطق السنية في التنفيس عن مشاعرها ورغباتها بإراداتها الحرة ضمن العراق المتحد؟! وبعكس كل ذلك شجعت مشاريع قوانين لوزارات ليست من اختصاصات الحكومة الاتحادية، تكريسا للنظام المركزي المباد.

3 - في بدايات اكتشاف نزوعه نحو التفرد وتهميش البرلمان، لا سيما بعد تحريك جيشه لمصلحته السياسية في خانقين في دورته الأولى عام 2008 جرت دعوات ملحة للإصلاح السياسي، وشاركت الكتل النيابية، ومنها التحالف الكردستاني في وضع صياغة شاملة لهذا الإصلاح في قرار له قوة القانون صادر عن مجلس النواب صادق عليه مجلس الرئاسة بتاريخ 4/ 12/ 2008 تحت رقم 44، وجاء في القرار ما يأتي:

التأكيد على كل مؤسسات الدولة والكتل النيابية الالتزام بالدستور وبكل مواده وأسسه من دون انتقائية أو تفسيرات خاصة، وفي الفقرة الرابعة من القرار يطلب مجلس النواب من الجهات المختصة الإسراع في تحقيق أمور منها:

احترام اختصاصات وسلطات الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والحكومات المحلية على حد سواء، وفق الدستور.

إجراء التوازن العام، خصوصا في المؤسسات الأمنية والاقتصادية والخارجية والخدمية المهمة، وفق ما أقره الدستور، مع توفير الفرص المتكافئة للجميع.

والعمل على إلغاء كل المؤسسات غير الدستورية وإعادة بناء القوات المسلحة وأجهزة الدولة الأمنية على الأسس الوطنية والمهنية، وإبعادها عن كل شكل من أشكال العمل السياسي.

تلك المادة الدستورية ذات الرقم 140 التي صنفت ضمن الأحكام الانتقالية التي كان المفروض أن تنجز بسرعة، فهي ليست من حكايات «ألف ليلة وليلة» كما يتخيلون، بل هي ديوان لقصة شعب تعرض لمحاولات الإبادة الجماعية بشتى الصيغ المنكرة، منها القتل الجماعي، كما جرى في حلبجة وغيرها من كردستان، وتهجيره من موطنه، كما جرى في كركوك ومناطق كردستانية أخرى معروفة، أو تغيير قوميته بالقمع وكل وسائل القهر والظلم، كما جرى في كركوك أيضا، وتوطين العرب الغرباء مكان السكان المواطنين الكرد أو التركمان، كما جرى أيضا في كركوك. فكيف يراد لها أن تصبح من باب «كان» لا من باب «يجب أن يكون»، والغريب أن بعضهم، وهم عرب أقحاح، زعموا أن هذه المادة انتهى مفعولها بانتهاء مدتها التي كان أقصاها 31/ 12/ 2009؛ والصواب أن هذه المدة هي مدة الإنجاز لا مدة المسؤولية، فحينما تنتهي مدة العقد لا تنتهي المسؤولية، بل تبدأ المسؤولية، أي تبدأ مسؤولية السلطة التنفيذية عن الأضرار الناجمة عن الإخلال بالتزامها القانوني، فلهذا دعوت في حينه إلى إقامة الدعوى ضد الحكومة الاتحادية بسبب تخلفها عن تنفيذ التزامها المرسوم في هذه المادة استنادا إلى المادة 204 من القانون المدني العراقي.

إن عمليات دجلة غير الدستورية سباق محموم إلى هدف مسموم، وهي مسمار أخير في نعش الاتفاقات المبرمة بين حزب الدعوة وإقليم كردستان، فعلى الحكماء من الشيعة والتحالف الوطني الإسراع في تدارك الأمر والحيلولة دون انهيار ما يحرص الكرد على متانته من علاقة الإقليم بالحكومة الاتحادية، وعلاقته أيضا بالشيعة.

ولما كانت المناطق التي وصفها الدستور بأنها مناطق متنازع عليها هي مناطق كردستانية، وهي حقيقة تؤكدها وقائع التاريخ والجغرافيا، ويفديها الكرد بشتى ميولهم وتوجهاتهم، ولما كانت تصريحات المالكي وطبول عمليات جيشه المسماة بعمليات دجلة تهدف إلى طمس هذه الحقيقة بأي ثمن، تعين على القيادة السياسية الكردية أن تؤكد هذه الحقيقة وتعلنها صريحة في مواجهة التضليل والزيف، فهي مناطق متنازع عليها كما ورد في الدستور ولا تغيير ولكنه تنازع بين الحقيقة التي أكدتها الانتخابات السابقة وواقع كركوك والمناطق الأخرى المعنية، والزيف الذي سلطه الإرهاب البعثي الفاشي في النظام البائد الذي يتتبع خطاه دولة رئيس الوزراء، والحقيقة هي أنها مناطق كردستانية في خارج الإقليم، كما حددها بيان السيد رئيس الإقليم. وهذه الحقيقة لا تتناقض مع مصطلح الدستور كما زعم بعضهم، فإن التنازع واقع واعترف به الدستور، ولكنه تنازع بين حق أرادوا له أن يضيع وباطل تقرر بظلم وعدوان لا بد أن يزول.

* نائب كردي سابق

في البرلمان العراقي