لماذا يتنكر مسيحيو لبنان لثقافتهم السياسية؟

TT

يقول المثل الشائع «غلطة الشاطر بألف غلطة»، وفي عالم السياسة من أكبر الأخطاء تعذر التمييز بين التكتيك والاستراتيجية. واليوم، مع احتدام الجدل في لبنان حول قانون الانتخابات الجديد، تشهد الساحة السياسية اللبنانية عبثية غريبة في التعامل مع قضية تعتبر في بلد يمارس الديمقراطية الحقيقية، أي بخلاف لبنان، قضية مصيرية.

الجدل بدأ مع سيل من المقترحات والمشاريع الغريبة العجيبة التي تخالف كلها تقريبا «اتفاق الطائف»، الذي هو جزء أساسي من الدستور، سواء من حيث النص أو من حيث الروح. ذلك أنه في صميم روح «اتفاق الطائف» المحافظة على الوحدة الوطنية والعيش المشترك. وهذا يعني أولا المحافظة على كيان الوطن وإبقاء اللحمة بين مكوناته، وفي الوقت ذاته احترام التنوع في إطار وطني جامع يتساوى فيه جميع اللبنانيين من حيث الحقوق أو الواجبات.

كي لا ننسى، توصل اللبنانيون إلى هذا الاتفاق لإنهاء حرب ضروس أهلية - إقليمية طالت نحو 15 سنة، وحصدت نحو 150 ألف قتيل ومئات الألوف من الجرحى والنازحين، ودمرت عمليا البنية الاقتصادية للبنان، وحرمت البلاد من الاستفادة من فورة اقتصادية غير مسبوقة في منطقة الشرق الأوسط.

في أي ظرف آخر ومع أي شعب غير الشعب اللبناني يستحيل لتجربة بهذه المرارة والتكلفة أن تغيب عن أذهان المواطن الذي مر بها وعانى منها. لكن الشعب اللبناني - مع الأسف - لم يتعلم شيئا، وأسوأ ما رفض تعلمه استحالة إلغاء طرف لطرف آخر شريك في الوطن. وهذه الأيام في خضم الجدل البيزنطي الدائر تتزايد المناورات الرخيصة بشأن قوانين الانتخابات المقترحة، التي ما إن يقترحها زيد حتى يعترض عليها عمرو، كما يصوت لها «فلان» لمجرد أنه يدرك سلفا أنها ستحرج «علتان».

اللبنانيون، بغالبيتهم، وافقوا على «اتفاق الطائف» وأقروه في أواخر عام 1989. وكان العقلاء منهم يدركون أنه كان خطوة ضرورية ولو أنها غير كافية لإعادة بناء دولة مؤسسات عصرية مستقلة تستند على مفاهيم المواطنة وفصل السلطات واللامركزية الإدارية والمساواة في التمثيل بين المسلمين والمسيحيين - من دون الحاجة إلى إجراء إحصاء - ومن ثم، السعي إلى تأمين التلاقي الوطني عن طريق إزالة شعور الغبن عند المسلمين وإزالة شعور الخوف عند المسيحيين.

في تلك الفترة وقف فريق لبناني واحد صراحة ضد «اتفاق الطائف»، هو ميشال عون ومَن كان معه. غير أن الأحداث أظهرت لاحقا أن ثمة جهات أقوى من عون وأكثر كياسة منه وافقت على «الطائف» فقط كمجرد خطوة تفيدها مرحليا وتتيح لها تعزيز مواقعها في لبنان ما بعد الحرب، تمهيدا للاستحواذ على السلطة لاحقا. وهذا، بالضبط، ما يفسر تحالف حزب الله وتيار عون بدعم مباشر من محور طهران - دمشق.

اغتيال رينيه معوض، أول رئيس لبناني ينتخب بعد توقيع «اتفاق الطائف»، كان مؤشرا مبكرا إلى أن ثمة اتجاها في لبنان وخارجه يرى في «الطائف» جولة عابرة لا أكثر. وحقا، عمل رموز الهيمنة السورية شبه المطلقة على لبنان بين عامي 1990 و2005 على تجاهل تنفيذ نقاط أساسية في الاتفاق، بينها قانون الانتخاب وإقرار اللامركزية الإدارية، ناهيك عن نزع أسلحة «جميع» الأفرقاء اللبنانيين.

وما يُذكر هنا أنه بخلاف جميع القوى الحزبية والطائفية اللبنانية المسلحة، التي سلمت أسلحتها، احتفظ «حزب الله» بسلاحه باعتباره «سلاح مقاومة» ضد الاحتلال الإسرائيلي. لكن حتى بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان في مايو (أيار) 2000 أبقى الحزب على سلاحه، ثم استخدمه لتعزيز مواقعه السياسية في هرم السلطة اللبنانية. ومن جهة ثانية، عقد الحزب صفقة مع عون حقق معها اختراقا استراتيجيا في صفوف المسيحيين الذين قام منطقهم السياسي منذ عهد الانتداب الفرنسي على فكرة الكيان اللبناني السيد المستقل، وكان الغلاة منهم يخوّنون كل من يشكك في الكيان وديمومته. لكن فجأة تغير كل شيء.

عون، المستقوي بسلاح حزب الله بأمل إلحاق الهزيمة بالسنة واستعادة ما يراه امتيازات سلبوها من المسيحيين الموارنة عبر «الطائف»، أيّد في بادئ الأمر طروحات حزب الله القائمة على فكرة التمثيل النسبي. وهذه طروحات تستغل احتكار الحزب السلاح، مما يسمح له بفرض سيطرته المطلقة على مناطق نفوذه مقابل تحقيقه اختراقات كبرى في مناطق خصومه.

لكن قبول عون بالتمثيل النسبي اصطدم بتحفظ مسيحي خائف من الهيمنة الشيعية. ثم طرحت قوى مسيحية، بعضها محسوب سياسيا على دمشق، ما عُرف بمشروع «اللقاء الأرثوذكسي» القائم على فكرة أن تختار كل طائفة نوابها، وهو ما يشكل نسفا لمفهوم التعايش بين الطوائف، وبالتالي خرقا للدستور.

وهنا أيد عون المشروع الأرثوذكسي، غير أن المفاجأة تمثلت في موفقين آخرين: إذ أعلن حزب الله تأييده لعون، وهرع بعض مسيحيي «14 آذار» أيضا إلى تأييد المشروع قطعا للطريق على خصمهم.. في محاولة منهم لطمأنة متشددي الشارع المسيحي إلى أن عون ليس أكثر مسيحية منهم.

وهكذا، وسط المزايدة والمزايدة المضادة يتبين أن فريقا لا بأس به من مسيحيي لبنان، مع الأسف، تخلى عن إيمانه بلبنان الواحد.. بعكس ما يدعيه وما ادعاه طويلا.

إن تخلي مسيحيي لبنان عن حجر الزاوية في ثقافتهم السياسية ينم عن خلل مقلق في قراءتهم السياسية، واستطرادا، يشكل تطورا مهددا أولا لمصير لبنان، وثانيا لمصير المسيحيين.. بينما يتأجج جمر الراديكالية الطائفية على امتداد المنطقة العربية.