المعضلة الإرهابية مجددا!

TT

لم يحدث أن تداخلت القضايا الأمنية الكبرى للمنطقة العربية والشرق أوسطية كما هي الآن. وفي ما يلي سوف نشرح بعضا من هذا التداخل وأخطاره ومعضلاته ومشاكله، ولكن ربما كان أخطر الأخطار هو أنه في هذا الخضم الهائل الذي يبدو كما لو كان طوفانا كاسحا، فإن قضايا كبرى مثل التنمية والترقي العام للدول والمجتمعات ربما تختفي من الوعي العام ويتم تأجيلها حتى تحسم القضايا الوجودية التي نعيشها. وفي علوم الاقتصاد، فإن هناك دائما ما يسمى تكلفة الفرصة البديلة، أو تكلفة استخدام الوقت المستقطع من تاريخ الشعوب لصالح عمليات النزاع والتناحر والصدام. ولكن ما باليد حيلة، وهذه منطقتنا على أي حال، وما علينا إلا مواجهة الحقائق والوقائع كما هي، حيث يستحيل تجاهلها أو غض الطرف عنها لأنها تدريجيا أصبحت تمس أمور الحياة والموت الآن أو في المستقبل القريب، فلم يعد في المستطاع تحمل مفاجآت أخرى تهز الدول هزا، وترج المجتمعات رجا، فإذا هي دائخة لا تعرف إلى أين تمضي أو تسير.. فقد عرفت مجتمعاتنا ودولنا صراعات «تاريخية» جرت على حلقات من الصراع والهدوء، والحروب ومحاولات السلام، وأشهرها بالطبع الصراع العربي - الإسرائيلي الذي يخفت حينا ويشتد أحيانا أخرى، ولكننا كشعوب ومجتمعات تعايشنا مع الصراع بشكل أو بآخر، وربما أكثر من ذلك وجدنا له وظيفة حيث يمكن أن تعلق عليه مشكلات داخلية أو خارجية، ولا بأس أحيانا من أن يكون مبررا لنوعيات حكم ربما لا تكون أفضل ما نستطيع. ولكن هذا الصراع الذي عرفنا حلقاته أخذ جانبا الآن، وارتجت المنطقة كلها على موجات ما عرف بـ«الربيع العربي» الذي لم يمض وقت طويل حتى تداخلت فيه كل فصول السنة من خريف وشتاء وصيف. ومع هذا التداخل دخل عنصر عدم الاستقرار إلى المنطقة في أشكال مختلفة.. فلم يعد معروفا على سبيل المثال ما هي السياسات الداخلية أو الخارجية لدول الربيع التي دخلت إلى مرحلة انتقالية كان أولها «ديمقراطيا» وآخرها «إسلاميا» يبدأ بصناديق الانتخابات وينتهي بمؤسسات قائمة على الفتوى وليس التشريع.

التجربة على أي حال لا تزال في بدايتها، ولكن محاولة توليد «خلطة» جديدة بين الديمقراطية والإسلام السياسي دخلت فيها خلطات أخرى تعتبر الأولى من رجس الشيطان. وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فإن الحركية الشديدة لمجتمع الثورات تطلق هزات كبيرة في المنطقة كلها، وما علينا أن نتخيل إلا ما فعلته «الثورة الفرنسية» في المجتمعات والدول الأوروبية خلال القرن التاسع عشر إلا ونراه الآن في الشرق الأوسط وقد امتزج بسمات المنطقة من طائفية ومؤخرا بالجماعات الجهادية السلفية التي تدفقت على أنحاء مختلفة من الشرق الأوسط لكي تسعى إلى تغييره ليس من خلال صناديق الانتخابات وإنما من خلال القوة المسلحة.

هنا تحديدا نضع ما حدث في الجزائر في الأسبوع الماضي عندما قامت جماعة إرهابية باحتجاز العاملين في منشأة لمعالجة الغاز في الجنوب، وعندما طال الأمر قام الجيش الجزائري بعملية عسكرية لإنقاذ الرهائن قتل فيها 34 رهينة وتحرير 26 منهم. وبغض النظر مؤقتا عن مدى الكفاءة التي جرت بها عملية الإنقاذ، وعما إذا كان واجبا على الجزائر أن تتشاور مع الدول التي لها رهائن، وهي الأمور التي ركزت عليها الصحافة العالمية، فإن العملية ذاتها تحمل مؤشرا خطيرا على أن الجماعات الإرهابية تحت رايات الإسلام والتوحيد والجهاد و«القاعدة» والنصرة والأسماء الكثيرة المشابهة، قد وصلت إلى مرحلة التشبع رجالا وسلاحا. لقد كانت محاولة الاستيلاء على مالي في الصحراء الأفريقية أولى الإشارات التي بدأت بالشمال ثم اتجهت إلى الجنوب باتجاه العاصمة لولا التدخل العسكري الفرنسي ومن بعده الأفريقي وربما بعد ذلك حلف الأطلنطي.

المسألة هكذا بدأت تأخذ على الأقل شكلين أساسيين: أولهما الاستيلاء على الدول، وكلما كانت الدولة فاشلة ويئس المجتمع الدولي والإقليمي من فشلها، فإنها تكون جاهزة للاستيلاء، وهكذا هو الحال في الصومال ومالي، وربما تدخل سوريا في هذا الإطار قريبا إذا ما انقلب ميزان القوى بين الجماعات الثورية لصالح تلك التي تحمل الشعارات الإسلامية. وعلى أي حال، فإن هذه الجماعات لم تترك شكا لدى أحد في أن ما تنتويه هو إقامة دولة «إسلامية» في دمشق، ولا يوجد شك في النوعية «الإسلامية» التي تتحدث عنها.

النوعية الثانية من العمليات العسكرية هي تلك التي تأخذ طابعا إرهابيا كما جرى في حادث الجزائر الأليم الذي يعيد إلى الجزائر ذكريات لا يريد أحد تذكرها، ولكن الثابت أن ما جرى هو رأس جبل الثلج الذي يوجد تحته جبل محمل بالأسلحة الليبية وبقايا العمليات العسكرية من كل نوع، ومع كل ذلك يوجد «مجاهدون» مدربون تدريبا عاليا خلال الحرب الأفغانية وغيرها من الحروب الجهادية. ما نحن بصدده ليس عمليات متفرقة، أو نوعية من الشباب الذي ضل الطريق، وإنما جماعات قوية عازمة وحاسمة وجازمة بضرورة تغيير المجتمعات حتى تعيش على الطريقة الطالبانية. وتجربة شمال مالي لا تترك لأحد مجالا للشك، فقد كانت بداية لتطبيق حدود الحرابة وقطع الأيدي والرجم بالحجارة استنادا إلى محاكمات تقاليدها مشكوك في قدرتها على تحقيق العدالة من أي نوع.

المدهش في الأمر أن المجتمعات العربية الإسلامية عرفت هذا المأزق من قبل عندما ظهرت فيها جماعات متطرفة إرهابية قامت بقتل الخلفاء والأئمة، ووضعت شكوكا على مدى «إسلامية» الدول الإسلامية، وكانت مواجهة هذا المأزق جماعية ترفض ما تطرف من أفكار، وتدعم السلطات الحاكمة خوفا من الفتنة التي تطيح بالجماعة كلها. الآن اختلط الأمر إلى الدرجة التي جعلت «عودة الإرهاب» سواء على طريقة ما يجري في مالي أو ما جرى في الجزائر تمضي وكأنها جزء من نوبات «الثورة» الجارية أو كأنها واحدة من العلامات الأصيلة لتيار إسلامي جارف قد يأتي عن طريق صناديق الانتخاب أو القوة المسلحة، لا فرق.

الخطر واضح وقادم وعارم، ومن المرجح أن الدولة العربية هي في ذاتها الهدف، ولكن المرجح أيضا أن هذه النوعية من الخطر سوف تجعل من القوى الإسلامية التي جاءت إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع هدفا هي الأخرى باعتبارها أعطت نوعا من المصداقية والشرعية لبدعة غربية تجعل «العوام» مصدرا للسلطات، ولا يجوز الاستناد إليهم في الحكم وإنما فقط لما أتى من الواحد القهار. وهكذا تراكم الخطر على الأخطار، فهل من مخرج من هذا المأزق؟!