وعي التغيير وتغيير الوعي

TT

القصد بالتغيير هو ما نتج، أو يعتقد أنه قد نتج، عن حركة الانتفاض العربي في البلاد التي عرفت ذلك الانتفاض بكيفية أو أخرى. أما وعي التغيير فهو الوعي بالكيفية التي حدث بها التغيير، هو التفسير الذي يعطى لما وقع، ومن الطبيعي أن التفسيرات لا تكون واحدة ولا منسجمة في الأحوال كلها، بل إنها لا تكون كذلك إلا نادرا.

هنالك بون شاسع بين ما يتم في الواقع المادي وتبينه في الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وما يتم في مستوى الوعي، في مستوى الفكر. فماذا إذن عن تغيير الوعي؟! وكيف لا يكون في العبارة مجرد تلاعب بالألفاظ وخلل في الفهم والإدراك؟ وكيف يكون تغيير الوعي شيئا مخالفا لوعي التغيير؟ الإجابة عن هذين السؤالين هي ما نحاوله في حديثنا اليوم، غير أننا نجدنا في حاجة إلى وقفة قصيرة عند دلالة الوعي بتغيير الواقع، إن كان الشأن كذلك فعلا.

لا نرجع مرة أخرى إلى ما سبق القول فيه، أي أن الانتفاض كان فعلا عفويا (القيادة والتنظيم والموجهات النظرية الواضحة تنقصه، والأحزاب والقوى السياسية المنظمة كانت في غفلة عنه؛ فليس لها فيه يد، وإن ادعى البعض عكس ذلك، الشباب كانوا هم القادة والمدبرين.. وكل ما قيل وكتب في الموضوع). نود أن نتذكر أمورا مهمة لا نعتبر أن جدلا يحوم حولها. الأمر الأول هو أن حركة الانتفاض قد حملت الإسلاميين إلى مواقع القيادة في البلدان التي شهدت الانتفاض: وصل الإسلاميون إلى مواقع السلطة التنفيذية في تحالف بين السلفيين وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وصارت السلطة التنفيذية في تونس في يد الإسلاميين في تحالف بين النهضة والمكونات الإسلامية الأخرى (وكل هذا في إطار اتفاق ثلاثي بين الإسلاميين والمكونات الليبرالية المختلفة في تونس)، وأسفرت الانتخابات التي جرت في المغرب عن احتلال حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) الرتبة الأولى التي تخول له، بموجب الدستور المغربي، رئاسة الحكومة، وانتهى الأمر في ليبيا (في عملية طويلة معقدة معا) إلى الامتلاك الفعلي للسلطة التنفيذية من قبل الإسلاميين، وربما آل الأمر، في الغد القريب، إلى حلول الإسلاميين محل بشار الأسد وشيعته في سوريا.

الأمر الثاني هو أن امتلاك السلطة التنفيذية من قبل الإسلاميين كان نتيجة معطيات موضوعية جعلتهم في المواقع التي يوجدون فيها اليوم، وهذا من جهة أولى، كما أنها أبانت قدرات عالية على المناورة واغتنام الفرص من جهة ثانية. والأمر الثالث، ولعله أكثر الأمور أهمية، هو أن الإسلاميين تكشفوا عن قوة وكفاءة عاليتين في التنظيم، وخاصة في البلدان التي تعرضوا فيها لأنماط من التضييق والقمع، بل ومن المنع الصريح أحيانا، مثلما هو الشأن في مصر وتونس وليبيا. وبعبارة أخرى، عرف الإسلاميون كيف يتكيفون مع الظروف والمعطيات الخاصة في كل بلد من بلدان الانتفاض العربي.

يمكن القول إذن إن وعي التغيير هو وعي بالنجاح الحالي للإسلاميين، فهذا معطى ميداني، وهو في الوقت ذاته حمل على طرح السؤال المتعلق بأسباب هذا النجاح، من جهة، وتساؤل، من جهة أخرى، عن العمر الافتراضي لهذا النجاح، وعن العوامل التي يكون من شأن اجتماعها أن تحول هذا النجاح إلى فشل (اكتساح مقاعد كثيرة من قبل القوى السياسية غير الإسلامية، وكذا تحالفها وضمان استمرار التحالف، فشل الإسلاميين في رفع التحديات الاقتصادية الهائلة التي تجابه بلدان الانتفاض العربي، احتمال فعل خفي لـ«يد خارجية» لا تزال تتربص بالإسلاميين الدوائر أو لعلها تعلن فشلهم من جهة نظر المصالح التي تحرك تلك «اليد الخارجية» وفق أجندة سرية...). والسؤال الذي يفرض على الناظر هو التالي: هل هذا بالفعل تقدير صحيح لما وقع؟ وفي عبارة أخرى: هل يمكن أن تعزى أسباب نجاح الإسلاميين إلى ما ذكر من أسباب؟ ألا توجد أسباب أخرى ذاتية في الواقع العربي ذاته؟ متى كنا ننتهي إلى التساؤل على هذا النحو، فمعنى ذلك أن شيئا ما يحدث في الوعي؛ نوع من الرجة، أو ربما الاستفاقة التي تعقب حالي الدهشة والفزع: الدهشة من نجاح الإسلاميين، والفزع من ذلك النجاح في الوقت ذاته. ربما كان للحال الثانية ما يبررها، أما الدهشة فليست ترجع في الواقع إلا إلى خطأ في الرؤية وخطل في التقدير.

ما الأسباب التي تحمل على الفزع من الامتلاك الحالي للسلطة التنفيذية من قبل الإسلاميين؟

لعل تلك الأسباب، كما نشاهد في الندوات التلفزيونية وكما نواكب أحاديث القوى المعارضة (وليس صحيحا أنها القوى الليبرالية وحدها)، وعلى نحو ما يمكن تلخيصها فيه ترجع إلى الخوف من «أسلمة» الدولة أو فرض «الدولة الدينية» من جهة أولى، وإلى الخوف من الاستبداد من جهة ثانية، وإلى الخوف على مستقبل الديمقراطية في البلاد التي شهدت وصول الإسلاميين إلى السلطة التنفيذية من جهة ثالثة.

أحسب أن أكثر الأسباب الثلاثة افتقارا إلى المعقولية هو ذاك الذي يتعلق بالدولة الدينية وما يتصل بها. فأولا ليست الدولة الدينية من الإسلام في شيء، وليس قيامها ممكنا جهات السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر؛ فالدولة اليوم، مطلق الدولة، تتنافى مع تلك الدولة المتوهمة من حيث البنية المعاصرة للدولة، وما تقتضيه جملة وتفصيلا، وهذا قول ذكرناه ورجعنا إليه في هذا المنبر أكثر من مرة، وربما كان الخوف المشروع هو الخوف من فرض نموذج ذهني أو متوهم، نموذج لا أحد يدرك مغزاه الواقعي لأنه متعذر في ذاته (هو النموذج «الإخواني» مثلا)، وإنما الخوف من الاستبداد، وتلك هي القضية الثانية. الحق أن حاجزا كان يحول دون الانتفاض في وجه الظلم، فيرغم الناس على قبول الظلم، قد تهاوى وتكسر، وأحسب أن دواعي المقاومة متوفرة، كما أن آليات المقاومة في حال من اليقظة والانتباه، ومتى كانت تنظيمات «الإسلام السياسي» تمتح من الإسلام وتطلب السند من المجتمع المسلم (وتلك قوتها، في مستوى الخطاب على الأقل)، فهي لن تجد نصيرا لا من الدين ولا من المجتمع.

وأحسب أن الإسلاميين من الذكاء بحيث إنهم لا يجهلون أن وصولهم إلى السلطة هو نتيجة تحالف ما، وأنهم إذا كانوا قد كسبوا معركة تصريف التناقضات الموجودة حولهم فإن التحديات الهائلة التي تجابههم (وليست التحديات الاقتصادية بمفردها) تجعلهم في موقع هش قابل للسقوط والتهاوي، وهم يمتلكون رصيدا كافيا من الخبرة السياسية يمنعهم من ذلك ويعصمهم من خطر إعادة إنتاج أساليب وآليات النظم التي كان الانتفاض في وجهها. أما الخوف على الديمقراطية، وهو الخوف المشروع، فليس يرتفع إلا بإحداث التغيير في الوعي العربي الإسلامي المعاصر، وتلك هي المعركة الكبرى أو المعركة على الحقيقة، كما يقول البلاغيون العرب.