ما لم تذهب إليه هيلاري كلينتون!

TT

حين تتأمل ما جاء على لسان هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، يوم الأربعاء قبل الماضي، عن الذين وصلوا إلى الحكم في أكثر من عاصمة عربية، بفعل ثورات الربيع العربي، فلا بد أن يستوقفك فيه شيئان.

جاء على لسانها أثناء مساءلتها أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، حول مدى مسؤوليتها عن مقتل السفير الأميركي في بنغازي يوم 11 سبتمبر (أيلول) الماضي، أن ثورات الربيع العربي قد أدت إلى وصول قادة للحكم ليست لديهم خبرة في إدارة الدول، ولا في إقرار الأمن، ولا في تحقيق الديمقراطية.

أما الشيء الأول الذي يستوقفك فهو أنها قد عممت الكلام ولم تخص تجربة في الحكم دون غيرها، بما يعني صراحة، أن المقصود بانعدام خبرته عندها، في هذه المجالات الثلاثة، هو التيار الإسلامي عموما، بغير تمييز لفصيل فيه عن فصيل آخر، فالكل في الافتقار إلى الخبرة سواء!

وأما الشيء الثاني - وهو الأهم في ظني - فهو أن ما تقول به الوزيرة السابقة، أمر طبيعي للغاية في حد ذاته، ويجب ألا نستغربه نحن، لأن جماعة الإخوان على سبيل المثال، ظلت في صفوف المعارضة منذ أن نشأت على يد حسن البنا عام 1928 حتى وصلت إلى الحكم عام 2011، ولذلك فهي لم تجرب الحكم، ولو ليوم واحد، فكيف إذن نطالبها أو نطالب قياداتها بأن يكونوا على خبرة في إدارة الدولة، وفي إقرار الأمن، وفي تحقيق الديمقراطية؟! إذ الطبيعي، والحال كذلك، أنك تكون على خبرة بالشيء الفلاني، إذا كنت قد جربته من قبل ولا تكون على خبرة به إذا لم تكن قد تصديت له في أي مناسبة، أو على أي مستوى!

السؤال الثاني لهذا مباشرة، هو: هل يعني ذلك أنهم مظلومون فيما يتلقونه يوميا من هجوم حاد بسبب عجزهم عن تصريف أي ملف يصادفهم كل صباح، فيزداد تعقيدا على أيديهم، بدلا من أن يجد حلا؟!

الإجابة: بالطبع لا.. ولكننا في الوقت نفسه، يتعين علينا أن نصل إلى تفسير، لهذا العجز الإداري والسياسي الواضح، من جانب هؤلاء القادة الذين صارحتهم الوزيرة كلينتون بأخطر عيوبهم، وهي تتأهب للرحيل عن منصبها هذا الشهر!

وكنت يوما قد سألت الدكتور رفعت السعيد، رئيس حزب التجمع اليساري المصري، عما إذا كان يفهم سر تمسك رجال أعمال الإخوان بالتجارة كنشاط واحد، بل وحيد، يعملون فيه ولا يتجاوزونه إلى نشاط آخر. وكان رده، أنه بدوره كان قد سأل واحدا من رجال الأعمال هؤلاء عما يجعلهم يركزون عملهم في التجارة وحدها، رغم أن العصر ممتلئ بما يمكن أن يغري أي واحد فيهم، في شتى مناحي الحياة! وكان رأي رجل الأعمال الإخواني، ردا على تساؤل الدكتور السعيد، أنهم كإخوان يؤمنون ويعملون بالحديث الشريف الذي يقول ما معناه، إن تسعة أعشار الرزق في التجارة!

وعبثا، حاول رئيس «التجمع» أن يلفت انتباه رجل الأعمال الإخواني إلى أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، لو كان حيا بيننا اليوم، لكان أول من يصنع، وأول من يزرع، وأول من يتحول عن نشاط كان قد نصح به، في حينه، لأن عصرا لاحقا قد جاء، فاستجدت فيه أنشطة أخرى أكثر جدوى على البشر، وأفضل لهم من حيث قدرتها على أن توفر لهم فرص عمل تقيهم ذل السؤال.

يتبين لك في ضوء هذا، أن انعدام الخبرة الذي ضجت به الوزيرة الأميركية، ليس سببه أنهم لم يجربوا الحكم ومسؤولياته من قبل، وإنما يرجع في أصله إلى أنهم يعيشون بيننا بأجسادهم فقط، أما تفكيرهم فهي هناك، في القرن الأول الهجري، ولذلك فعندما يتصدى هذا التفكير لمشكلات وأزمات الحكم في هذا العصر، فإنه ينكشف تماما، لأن مثل هذه الأزمات، وتلك المشكلات، لم تكن موجودة طبعا وقتها، وبالتالي فلا حلول لها هناك!

بمعنى آخر، فإن عقيدة رجال أعمال الإخوان في التجارة وحدها، دون سواها مما في عصرنا من أعمال وأنشطة، تشير من بعيد إلى نمط تفكير كامل لدى التيار الإسلامي عموما، والإخوان خصوصا، ولا تتوقف من حيث دلالتها كعقيدة في الحياة عند حدود رجل أعمال يقتنع بنشاط محدد، فيعمل به وينغلق داخله، ولا يفكر في غيره!

ولذلك أيضا، فليس غريبا أنك كلما ذهبت لتناقش أحدهم فيما نحن غارقون فيه في هذا العصر، فإنه يحيلك على الفور إلى ما قد يكون قد طالعه ذات يوم، في «أسباب النزول» للنيسابوري تارة، أو في «فقه السنة» للشيخ سيد سابق تارة أخرى، أو في «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي تارة ثالثة، دون أن ينتبه إلى أن هؤلاء وغيرهم كان لهم وقتهم وعصرهم، بمثل ما إن لنا وقتنا وعصرنا، وإن لنا، بل علينا، أن نأخذ منهم ما يعلو بنا في أيامنا، ثم ندع ما دون ذلك، دون تردد ولا إبطاء!

هذا هو ما يبدو، بشكل عام، ليبقى بعده شيء خاص بمسيرة «الجماعة» منذ أكثر من ثمانية عقود من الزمان، وهذا الشيء هو أنها فيما يبدو الآن كانت تعارض ملكين قبل ثورة يوليو (تموز) 1952 وثلاثة رؤساء بعدها، من أجل المعارضة في حد ذاتها، وليس من أجل طرح حلول لمشكلات الناس.. فالمفهوم دائما أن المعارضة - أي معارضة - تعارض، لتطرح البديل العملي لما تنتقده، لا لتشاغب في الحكم فقط، حتى إذا أتيح لها أن تكون في مكان من تعارضه يوما، فإنها تذهب من أقصر طريق، إلى تطبيق بدائلها التي تمتلكها.

شيء من هذا ليس متاحا بأي درجة لدى الإخوان الذين ظلوا يعارضون وينتقدون 84 عاما كاملة، فلما كتب الله لهم أن يكونوا في مواقع الحكم، انكشفوا كما لم ينكشف تيار معارض من قبل، وبدا كل واحد فيهم وكأنه خرج فجأة من غرفة مظلمة، إلى ميدان يسطع بالنور، فراح يتخبط مرة إلى اليمين، ومرة إلى الشمال!