هل غاب جمال البنا؟

TT

ورحل عن عالمنا قبل يومين، الباحث في الفقه الإسلامي، والمؤرخ المصري لجماعة الإخوان، جمال البنا، شقيق مؤسس الجماعة ورمزها حسن البنا.

رحل الرجل عن دنيانا عن 93 عاما، حافلة وصاخبة، وميز نفسه منذ زمن مبكر عن جماعة أخيه، لم ينابذهم العداء لكنه لم ينسحق فيهم، كما فعل ابن شقيقه، سيف الإسلام حسن البنا.

أيضا، ميز الشيخ جمال نفسه فقهيا، بمحاولات مقدرة للاجتهاد في الفقه السياسي والاجتماعي، فيما يخص علاقة الدولة بالدين وبالمجتمع، وفيما يخص تمكين المرأة، والتعامل مع غير المسلمين، وكان في كل هذه المقاربات بعيدا عن المسار الحديدي للجماعة المحتكرة للحديث باسم الإسلام، الحضاري منه والجهادي والدعوي والفقهي والرياضي، وغير ذلك.

لم يرق هذا للجماعة في مصر وغير مصر، فمارسوا مع شقيق إمامهم ورمزهم الأول، نوعا من الحذر والتهميش، دون تواقح عليه في القول أو هدم لكل قيمته، خصوصا أن الرجل لم يكن صريح العداء لهم، بل كان يتحدث عن دعوة أخيه وشخصية المؤسس حسن البنا بتقدير وتوقير، لكن هذا لم يمنع بعض الألسنة الحادة ممن لا يحسبون بشكل «مسؤول» على الجماعة عن تناول جمال البنا وطلعاته الاجتهادية، بل ونقداته لممارسات الإخوان أنفسهم.

كل ما قدمه جمال البنا في مجال الاجتهاد والتأويل مقدر، ولكنه ليس هو الجانب الأبرز ولا المتفرد فيه. فهناك من سبق ومن عاصر ومن لحق جمال البنا في هذا المضمار، وقدم ما هو أكثر لفتا للانتباه، وأمكن منه في العرض والنقض، والتحليل والتأويل. الجانب الأهم، بتقديري، في عطاء جمال البنا، هو وثائقه عن تاريخ الجماعة نفسها، وتقلباتها في أمواج الحياة السياسية والاجتماعية في مصر. كيف لا وهو قد رأى بعينه وهو فتى يافع أخاه حسن البنا ورفاقه وهم يشيدون بنيان هذه الجماعة التي شكلت إضافة خطيرة على العقل المسلم والمجتمعات المعاصرة في القرن المنصرم.

أصدر جمال البنا، وكان ذلك من حزمة إصدارته الأخيرة، عدة أجزاء من كتاب بعنوان (من وثائق الإخوان المسلمين المجهولة)، وفي ظني أن هذا النوع من الكتابة والتأليف هو الأمانة التي يجب تأديتها، على كل من عاصر لحظات التكوين في ثقافتنا السياسية المعاصرة، بما تحمله من مفاهيم وتصورات ما زالت حية فاعلة بيننا.

نحن في العالم العربي نعيش أصلا هشاشة في القراءة، لذلك يسهل خداع العموم، والإعلام، وإعادة تشكيل الذاكرة كل حين بما يناسب مصالح المرحلة وحكامها وحساباتها، خصوصا مع الفقر الشديد في تأليف المذكرات، ورصد الوثائق ونشرها، إحجاما وحذرا من قبل البعض، أو قرفا ويأسا من صلاح الحال وجدوى هذه الكتابات في مجتمع لا يقرأ ولا يعنيه أن يقرأ.

غير جمال البنا، كثير يجب عليهم التوثيق والكتابة قبل الرحيل، ليس فقط عن هذه الجماعة المثيرة والغامضة، بل عن غيرها أيضا من عهود وأحداث ومواقف صنعت التاريخ.

هل نحن أمة بلا ذاكرة؟ أم نحن شعوب لا تقرأ هذه الذاكرة جيدا؟

[email protected]