المثقف العراقي.. بناء التجربة الديمقراطية

TT

عبر العقود الماضية، تمكنت الأنظمة الديكتاتورية والشمولية في البلاد العربية من صناعة شريحة انتهازية من المثقفين، مهمتها تجميل الأنظمة الديكتاتورية حتى تماهت معها وأصبحت جزءا منها. والمتتبع للمشهد الثقافي يرى التشابه والتماثل بين هذه المجاميع، فهي لا تختلف في السلوك والتوجه، وتمتاز بانتهازيتها، ونفعيتها، وتفننها في تبرير وتسويغ حماقات وجرائم الطغاة. فلعبت دورا تدميريا في تضليل الرأي العام وتجهيله..

لذا، نرى هؤلاء، ما عدا ما يتقيأونه من زيف وافتراءات في الصحف الصفراء اليومية التابعة لتلك الأنظمة، ألفوا عشرات الكتب التي تتغنى بحنكتهم السياسية وفكرهم المتقد وعظمتهم... عموما، استطاعت هذه الأنظمة التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، وقادها انقلابيون من الضباط الصغار، من صناعة مثقف سلطة مفرغ من أي محتوى، لا يتوانى عن كتابة أي شيء ومن دون قراءة نقدية أو تحليل، إذ إنهم يتعاملون مع ما يقوله الطاغوت.. مثلا، حين اندلعت الحرب العراقية - الإيرانية وفي أيامها الأولى، قال صدام: «الآن، الوضع الاقتصادي في العراق أفضل مما هو عليه قبل الحرب، لأول مرة دولة تخوض الحرب واقتصادها يتحسن» - ظنا منه أن الحرب ستستمر ستة أيام أو سبعة - هنا جن جنون وسائل الإعلام العراقية، فضلا عن الأقلام العربية المأجورة للنظام، وهي تشيد بهذا الإنجاز غير المسبوق. ولكن بعد مضي أيام قليلة لا تزيد على أسبوع، حتى يئس صدام من انتهاء الحرب، فاضطر للقول: «من غير المعقول أن يستمر اقتصاد أي دولة في أيام الحرب بالوتيرة نفسها لما كانت عليه قبل الحرب، إذن لا بد من شد الأحزمة على البطون وأن يتحول اقتصادنا إلى اقتصاد حرب». فعادت وسائل الإعلام ذاتها، ومن دون أي حياء، للتثقيف باقتصاد الحرب غير آبهة بوعي المتلقي، لأنها غير معنية به مع مراهنتها على غبائه!! فالمنظومة الثقافية تشتغل لخدمة السلطة، هذا ما اعتادته. وهذا غيض من فيض، لا نريد الإسهاب فيه... ولكن بعد زوال النظام في عام 2003، انبرى بعض المثقفين للحديث عن دور المثقف، وأهمية مشاركته في صنع القرار السياسي، إلا أنهم سرعان ما بدأوا يفقدون حماستهم تبعا لمصالحهم، وانتماءاتهم الإثنية، والدينية، والطائفية... إذ رضعوا ثقافة بطريركية شمولية لعقود طويلة.. ولكن مع ذلك، برزت لدينا مجاميع ثقافية تبدو مساحتها في المشهد الثقافي أقل من مساحة المثقف التقليدي، لكنها رغم ذلك تبحث عن أساليب تنتمي إلى عالم الحداثة، تسعى للمساهمة في صناعة دولة المواطنة والارتفاع بوعي الإنسان، عبر إذكاء جميع الوسائل والأدوات الجمالية التي من شأنها الارتقاء بوعي الإنسان للدفاع عن حقوقه وإنسانيته، وتوفير الفرص المتاحة له للتعبير عن طاقاته، من أجل خلق إنسان قادر على إنجاح تجربته الديمقراطية، وبناء دولة المؤسسات والاقتراب من ما وصل إليه العالم المتمدن في الجانب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، إذ إن المثقف هو من يصنع عوالم أكثر رقيا وجمالا.

وهذا ما نشهده في العالم الغربي، فالمثقف هو مصدر المعلومة التي تحرك العالم نحو بناء عوالم أفضل، كما أنهم يرفدون آلاف المراكز البحثية بالدروس والأبحاث التي توضع أمام السياسي لتسهيل مهمته من أجل اتخاذ القرارات المناسبة. إذن، المثقف هو من يصنع، عبر رؤاه وخياله الواسع، عوالم أفضل، وخير مثال على ذلك دور المفكرين التنويريين الذين أسهموا في تغيير صورة العالم، أمثال جان جاك روسو، وجون لوك.. وآخرين. لذا، وبهذه المناسبة نتمنى أن تتعزز مكانة المثقف العراقي، وأن يسهم بجدية في صناعة حياة أفضل، وفي إخراج العراق من عنق زجاجة أزماته التي تستعصي على السياسيين معالجتها والوصول إلى حل لها.

* رئيس جامعة صلاح الدين

في إقليم كردستان العراق