الآلات النقرية

TT

لن تصادف في أي مكتبة رجلا يطلب «الإلياذة» لهوميروس، أو «الكوميديا» للإيطالي دانتي. مع أن جميع من في المكتبة هذا النهار، يقرون، أو يعرفون، بأن الرجلين من أعظم شعراء الغرب. لماذا؟ لأن أحدا - سوى المختصين - لا يعرف شيئا عن الكثيرين من أشخاص الملحمتين. سوف تظل تقرأ، في كل اللغات، أقوالا ومقتطفات واستشهادات من كليهما، لكن القراءة الكاملة صارت نادرة. لقد بعد عصرهما، كما بعد عصر الزير أبو ليلى. وسوف نظل نعود إلى عنترة، في بأسه وفي رقته، ولكن كم عدد الذين سينصرفون إلى حفظ المعلقة أو إلقائها؟!

عام 1848 ظهر «المانيفستو» الشيوعي الذي ترك آثاره في مناطق من العالم لقرنين على الأقل. لم يحمل أفكار كارل ماركس فحسب بل حمل خصوصا أسلوبه الأدبي، هو الذي بدأ شاعرا وأديبا. وكذلك بدأ سيد قطب حياته السياسية أيضا.

وتتحول معظم خطب التنصيب التي يلقيها الرؤساء الأميركيون إلى آثار أدبية، أكثر منها بيانات سياسية. حتى جورج بوش الابن صيغ له خطاب يحاكي شيئا من خطابي لينكولن وكيندي. ما الذي يتغير عن لينكولن وماركس؟ الأسلوب. لا يمكن أن تظل تعابير ومصطلحات منتصف القرن التاسع عشر هي نفسها الآن.. إلا طبعا في بعض العالم العربي حيث لا تزال مصطلحات ماركس تعوم على سطح الخطب كما يعوم الزهر البري في المستنقعات. ما من محاولة للانضواء في بدايات هذا القرن، إكراما لكارل ماركس على الأقل. لقد كان الرجل حريصا على أثر الصياغة مقدار حرصه على أثر الفكر. لا يزال «مناضلو» العالم العربي في مصطلحات 1848.

يذكر أبناء جنوب اليمن الذين كانوا أطفالا أيام الحكم الشيوعي، أنه كان عليهم أن يحفظوا، قبل أي شيء آخر، نبذة عن حياة الرفيق فلاديمير لينين وأيضا عن حياة رفيقته، أولغا أوليانوفيتش. تصور أبناء يافع ماثلين في الصفوف، يرددون خلف مدرس من يافع أيضا: ولدت الرفيقة المناضلة أولغا أوليانوفيتش في 1871. لكن هذا ما كان يحدث كل يوم. أما طلاب الصفوف الأعلى فكان عليهم أن يناقشوا «المانيفستو» خاليا من شاعرية ماركس ومن تعمده وضع البيان الشهير في مقاطع تشبه سيمفونيات مواطنه بيتهوفن.

لم يعد المانيفستو إلزاميا في عدن - كما نعتقد - لكن المناضلين العرب في كل مكان لا يزالون معلقين بالجزء الموسيقي منه.. أي ما يعزف على الآلات النقرية. دفوف وخلافها.