أبراج العقل الطائرة في مصر

TT

في المراحل الأخيرة للحرب العالمية الثانية، اكتشف بعض ضباط الجيش الألماني أن الهزيمة أمر مؤكد، وأن الوسيلة الوحيدة لضمان شروط أفضل في التفاوض مع الحلفاء، تحتم التخلص من هتلر، لذلك قرروا اغتياله بقنبلة وضعوها أسفل مائدة الاجتماعات، وانفجرت القنبلة ونجا هتلر. وفي لحظات تم الكشف عن كل المسؤولين في حلقة التآمر وكان من بينهم أشهر جنرالات الجيش الألماني وهو روميل. لم يتم القبض عليه؛ بل أرسل له هتلر رسالة قصيرة يطلب منه فيها أن ينتحر، وهذا ما حدث بالفعل، غير أن الشعب الألماني لم يعرف بحقيقة تآمره أو انتحاره.. عرف فقط أن جنراله المحبوب قد مات، وفي صباح اليوم التالي أثناء الجنازة، صافح الفوهرر أرملته وقال لها إن ألمانيا كلها حزينة لأنها فقدت بطلا عظيما من أبطال الرايخ الثالث. أسوق هذه الواقعة لأنها توضح من الناحية الفنية أهمية الفصل بين الرمز والشخص في بعض الظروف التاريخية.. الشخص المخطئ عليه أن يدفع الثمن، أما الرمز بداخله فيجب الحفاظ عليه أمام الناس نظيفا لا تشوبه شائبة. روميل الشخص مات منتحرا لأنه تآمر على قيادته السياسية، أما روميل الجنرال البطل، فيجب أن يظل حيا إلى الأبد في قلوب مواطنيه.

نحن نتحرك في عالم من الرموز؛ رموز للقوة والحكمة والبطولة والعدالة والمعرفة والعبقرية، وكل رمز منها يشعر الجماعة بالقوة والتماسك، وفي تدمير أو غياب هذه الرموز يشعر الإنسان الفرد باليأس والضياع، وهو ما يطلق كل قوى الشر والعدوان بداخله من عنانها فيتحول إلى طاقة عدوان لا تبقي ولا تذر. أنا أطلب منك أن تفكر في حال مجتمع فقد احترامه لرموزه التقليدية كالأسرة والأخوة والأبوة والأمومة وبقية قيم المجتمع من صدق وأمانة وشجاعة وعشرات بل مئات الرموز الأخرى، ترى.. ماذا يكون حاله؟

بالتأكيد أنا لا أكتب لك اليوم لأذكرك بواقعة من الحرب العالمية الثانية، بل لأني منشغل بواقعة ربما تبدو عديمة الأهمية لكثيرين، وهي أن المتظاهرين الثوار في أجمل أحياء القاهرة وبجوار أشهر فنادقها قبضوا على عميد شرطة وأوسعوه ضربا ثم اعتقلوه في الفندق إلى أن تمكن بعض الثوار الشبان من الإفراج عنه بعد عملية تفاوض طويلة ثم نقلوه للعلاج في أحد مستشفيات القاهرة. قبل أن يسقط هذا الرمز الكبير من رموز الأمن في المجتمع، كان لا بد أن يسقط قبله رمز أكبر للعدل في لعبة سياسية سخيفة غاب عن أصحابها خطورة ألعابهم الصغيرة. أقصد بذلك محاصرة المحكمة الدستورية العليا ومنع قضاتها من دخولها لممارسة عملهم وهو - كما يعرف الجميع - إقرار العدل.

إن آليات التفكير عند الإنسان الفرد هي بذاتها عند المجتمع.. هذا عدوان على رمز كبير لا بد أن يترتب عليه أكبر قدر من الإحساس بالتعاسة والضياع عند المجتمع.. وتتوالى اللقطات فيرى المشاهدون أمام قصر الاتحادية عددا من البشر يتم التحقيق معهم بواسطة أشخاص لم يفوضهم أحد للقيام بذلك.. أشخاص غير مأذون لهم ولا مسؤولين ولا محلفين، يعاملون الناس بوحشية.. مرة أخرى يسقط رمز آخر من رموز أكثر الأفكار نبلا في العصر الحديث وهو غياب القاضي الطبيعي، ومنفذ القانون الطبيعي، وفي غياب الدفاع الطبيعي، كل ذلك كان يجب أن يحدث تمهيدا لضرب عميد الشرطة والقبض عليه واعتقاله. وتتسع دائرة الضياع لتشمل المؤسسة الأمنية، ويصل الأمر إلى أن ضباط الشرطة الشبان، يطردون وزير الداخلية في جنازة زميل لهم لأنه لم يسمح لهم بحمل السلاح ليدافعوا به عن أنفسهم (إنت باعتنا من غير سلاح عشان يقتلونا) في الغالب هم يقصدون زميلهم الذي قتل ضربا أمام سجن بورسعيد. الواقع أن من أصدر الأوامر لرجال الشرطة بأن لا يحملوا سلاحا حتى سلاحهم الشخصي، ارتكب خطأ مهنيا لا يمكن غفرانه.. لقد حرمهم من حق الدفاع عن النفس وهو أكثر حقوق البشر قداسة، وذلك لأسباب سياسية بلهاء. الأمر هنا أشبه بأن ترسل إلى جبهة القتال مدرعات ليس بها ذخيرة.. الأكثر شرفا هنا وعدالة هو أن تطلب منهم البقاء في بيوتهم.

أكره النفاق في كل ما يتعلق بالدولة، كما أكره النفاق في كل ما يتعلق بالثورة، وأخشى على الدولة من جمعية محبي الثورة لأنني أعرف أن عين المحب عن العيوب كليلة، ربما تكون مؤيدا للثورة بوصفها الطريق الوحيد المؤدي إلى ما تطلبه وهو العيش والكرامة والعدالة، غير أنني سأشعر بالخوف منك عندما تقع في عشقها، لأن ذلك هو ما سيضع على عينيك غشاوة فلا ترى أن المتظاهر ليس هو ذلك الذي يهاجم رجال الشرطة والمنشآت، ولا ترى أن حرية التعبير ليس داخلا فيها اقتحام المدارس والفنادق وإشعال النار فيها وسرقة ما بها. لقد جربت كل أنواع الخوف من قبل وعشت أياما صعبة لأنني جرؤت على طرح أفكار مختلفة عن السائد، غير أنني لست أشعر الآن بالخوف فقط؛ بل بالضياع في مواجهة مسؤولين يحظون بقدر جليل من الجهل ولا يرون إلا ما هو تحت أقدامهم فقط؛ هذا إذا كانوا يرونه حقا.

وبينما المصريون يدفنون قتلاهم ويطلبون من الله أن يشفي جرحاهم، طلعت علينا جريدة «الأخبار» (29 يناير/ كانون الثاني 2013) بسقوط آخر أبراج العقل في مصر وهو: «كشفت مصادر أمنية للأخبار (للأخبار بس) عن شخصية إماراتية كبيرة تتولى تمويل عمليات التخريب والتدمير في مصر، وقالت المصادر إن التمويل يشمل شراء 20 ألف بطانية و30 ألف وجبة غذاء لإمداد المتظاهرين بها». غير أن الخبر لم يذكر الأسباب التي دفعت هذه الشخصية الإماراتية الكبيرة لهذا الفعل الخطير؛ هل هي أسباب سياسية أم نفسية؟ هل تشعر الإمارات بالغيرة لعدم مرور الربيع العربي عليها؟ أم إن السبب نفسي بحت عند الشخصية الإماراتية الكبيرة.. هل أحب ذات يوم فتاة مصرية وتقدم لخطبتها فرفضته وتزوجت من شخصية مصرية ليست كبيرة؟ فشعر بالغضب وقال لها: «طب ورحمة أمي لنا موريكي انت وبلدك».

أما الخبر الثاني في العدد نفسه من «الأخبار»، فهو أيضا ينتمي لآخر أبراج العقل الطائرة في مصر، وهو أن شخصا حكم عليه بالإعدام في مجزرة بورسعيد، لم يحدث أن قدم للمحاكمة أصلا.. لقد قبضت عليه الشرطة في أحد شوارع بورسعيد وحولته إلى النيابة التي أفرجت عنه بعد 15 يوما. هذا هو الجديد في الأمر، أن تحال أوراقك إلى المفتي تمهيدا لشنق سعادتك بغير أن تحاكم.