أشواك النجاح!!

TT

للدواء الشافي أعراض جانبية، والفيتامينات إذا أخذنا منها جرعات كبيرة تؤدي إلى مخاطر صحية. النجاح الطاغي كذلك قد يصبح سببا في تراجع المبدع، عندما يجد نفسه قد أصبح مثل من يقفز الحواجز، إذا لم يحقق في القفزة التالية رقما أعلى يتعثر ويخرج من التسابق!!

مثلا الكاتب المغربي الراحل محمد شكري صاحب رواية «الخبز الحافي» التي حققت شهرة استثنائية في العالم، حيث ترجمت إلى 39 لغة ولا تزال تقف في الصدارة على مستوى أرقام البيع، كان (شكري) يعاني من حالة النجاح المفرط التي صنعت جبلا شاهقا منع العيون من رؤية أي إبداع آخر على الرغم من أنه كتب «الخبز الحافي» عام 72 وعاش بعدها 32 عاما محاولا أن يقهر «الخبز الحافي» بأعمال أدبية تفوقها شهرة دون جدوى!!

كان الكاتب الكبير يقول متهكما «الأطفال في الشارع لا ينادونني شكري، بل يقولون (الخبز الحافي)». صار بينه وبين الرواية عداء سافر، وكان يشعر بأنها تسحقه فيكتب غيرها ليقهرها، فيكتشف أن القراء لا يزالون يسكنهم «الخبز الحافي»، وانتهت حياته بعد أن قدمت السينما الرواية في فيلم أخرجه الجزائري «رشيد بن حاج» ومات قبل عرضه بينما عاشت رواية «الخبز الحافي».

كان الشاعر السوداني الكبير الهادي آدم، الذي حقق شهرة عريضة في العالم العربي قبل أكثر من 40 عاما، يرفض أن يُلقي قصيدته «أغدا ألقاك» في اللقاءات العامة، أصبح معاديا لتلك القصيدة بعد أن غنتها أم كلثوم من تلحين محمد عبد الوهاب. كان يشعر بأن هذه القصيدة اختصرت كل دواوينه في عدد محدود من الأبيات الشعرية، وكثيرا ما كان يغادر منصة أي حفل يدعى إليه لو أصر الحضور على أن يلقي إليهم «أغدا ألقاك».

الغريب أن الشاعر الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة ممن تغنت بأشعارهم أم كلثوم وهو اللبناني جورج جرداق (90 عاما) - أمد الله في عمره - والذي رددت له أم كلثوم قصيدته «هذه ليلتي» بتلحين محمد عبد الوهاب بعد أن كتبها مباشرة بتكليف من أم كلثوم، يعيش أيضا المأزق نفسه، وهو أن الناس لا يعرفون عنه سوى أنه صاحب «هذه ليلتي»!!

على الإنسان أن يتعلم كيف يواجه الفشل، كما أن عليه ترويض النجاح. يحيى الفخراني كان من الممكن أن يظل أسير دوره الأثير «سليم البدري» في «ليالي الحلمية»، لكنه حرص على أن يقفز بعيدا، ودائما ما يعبر حاجز النجاح من رمضان إلى رمضان، بينما غريمه في المسلسل «سليمان غانم» صلاح السعدني منذ ربع قرن وهو يبحث عن ذروة تلفزيونية يتجاوز من خلالها دور العمدة، إلا أن مأساة النجاح الطاغي تجسدت بقسوة مع صفية العمري «نازك السلحدار» في «الحلمية» حيث إنها وصلت إلى نجاح جماهيري غير مسبوق في الشارع ليطلق اسمها لأول مرة على أفخر أنواع البلح في رمضان، بل إن ماركة من السيارات صار اسمها «عيون صفية»، ولا تزال صفية حتى الآن تحاول دون جدوى عبور حاجز «نازك»!!

أتذكر أن الراحلة القديرة «سناء جميل» كثيرا ما كانت تعزف عن إجراء الحوارات الصحافية بسبب تكرار سؤالها عن دورها نفيسة في «بداية ونهاية»، وحفيظة في «الزوجة الثانية». كانت تشعر بألم نفسي عندما ترى بعض الزملاء يحاولون اختصار مشوارها العظيم فقط في نفيسة وحفيظة.

تجاوز النجاح يصبح أحيانا أصعب بكثير من مواجهة الفشل، ولدينا نجوم كانت آفتهم هي النجاح وليس النسيان كما يقول أديبنا نجيب محفوظ «آفة حارتنا النسيان».. ويبدو أن حارة المبدعين آفاتها هي أن الناس على العكس لا يريدون أن ينسوا!!