حتى تعود المعطوبة محروسة!

TT

من أكبر شرور السياسة... الاستغباء، وتعني أنك تقول شيئا مناقضا للحقيقة وتعتبره حقيقة مطلقة رغم معرفتك الأكيدة أنه عملية تضليل.

ما يحدث في مصر مثير للغاية، والحديث حوله قد طافت به الركبان في الأيام الأخيرة، ولم تبقَ نشرة أخبار خالية من أحداث المحروسة التي لم تعد «محروسة» - مؤقتا على الأقل - بل أفضل وصف لها «معطوبة».

المغالطة الأكبر التي يتبناها البعض من المتحدثين والمدافعين عن سياسات حزب الحرية والعدالة بهدف بناء حائط ضد المطالب الشعبية المصرية المتعاظمة، القول إن النظام الحالي، وخاصة رئيس الجمهورية، قد جاء من خلال صناديق الانتخاب، هذا القول فيه مغالطة – مع الأسف تمر سريعا على البعض - وهي من باب الباطل الذي يراد به حق.

في هذه المغالطة ثلاث ثغرات مريبة، الأولى أن القائل بها يعتبر أن عملية التصويت هي نهاية وهدف بحد ذاتها، وأن الديمقراطية هي عملية تصويت فقط، وذلك من قبيل الإصابة بمرض أسميه «الديمفوبيا»، أي الاعتناء بالمظهر وتجاوز المخبر، والحقيقة في مكان آخر، وهي أن التصويت وسيلة لإحلال مجموعة من القيم في المجتمع تقوم عليها علاقات صحية بين مجموعاته، من أجل تدبير حياته على قاعدة المساواة والمشاركة، والتصويت بحد ذاته لا يعني الكثير.

فمثلا في مصر قبل ثورة 23 يناير (كانون الثاني) كان هناك عدد كبير من عمليات التصويت، في معظمها صحيحة، ذلك لم يمنع المصريين في وقت ما، وتحت ظروف محددة، أن يقلبوا الطاولة على من جاءت به «صناديق الانتخاب» تلك. وفي التاريخ الحديث الكثير من الأمثلة التي يعرفها طلاب المدارس، فمثلا ريتشارد نيكسون جاء بالتصويت كرئيس للولايات المتحدة، ولما ارتكب ما يخالف القيم التي جاء من خلالها ولأجلها تم عزله، والسيدة مارغريت ثاتشر، المرأة التي جاءت بالتصويت أيضا، تم عزلها من حزبها وهي رئيسة وزراء، عندما رأى الحزب أنها تشكل عبئا عليه يأكل من رأسماله السياسي. تلك واحدة.

أما الثانية فإن القائل بتلك الحجة ينسى أن السيد مرسي قد تفوق بنسبة قليلة من الأصوات على منافسه أحمد شفيق، مما يعني أن الكثير من الناخبين كان لهم رأي آخر، وبالتالي فإن مراقبة الفعل السياسي للرئيس المنتخب ستكون أكثر دقة من قبل أولئك الذين كان لهم موقف آخر، إذا أضفنا إلى ذلك أن شريحة لا يستهان بها قد صوتت للسيد مرسي نكاية بالمرشح الآخر، لا انحيازا لأفكاره، وهو اليوم أمام ممانعة شريحة كبرى في المجتمع وتتسع.

أما ثالث المغالطات فهي أن طبيعة المرحلة الانتقالية، بعد تغيير عميق في النظام السياسي الذي كان، توجب المشاركة الواسعة، لا التهميش والعزل لرفقاء الأمس، مما زاد في الإحباط وقاد إلى التوتر، مما وسع في الصدع الداخلي.

نتيجة المغالطات الثلاث قادت إلى تقدير خاطئ من النظام المصري الجديد لما يرغبه الناس، ونقل الصراع حتى إلى داخل جسم الدولة.

رغم القول الشائع أن الحكم على الأعمال السياسية بالنتائج لا النيات، فإن ما يراه قطاع واسع من المصريين اليوم أن هناك نية مبيتة للاستحواذ على السلطة، وقد تكون الفكرة الراسخة لدى البعض من أهل الحكم في مصر اليوم أنهم يرغبون في أخذ البلاد إلى مكان آخر أفضل وأرحب، وأن كل ما يطلبونه هو السماح بالوقت! قد يكون ذلك، إلا أن الأكثر حصافة أن تتم مشاركة أوسع للذهاب إلى ذلك المكان الموعود وتوسيع القاعدة السياسية، لا العودة إلى نفس مقولات النظام السابق، التي - وفي وقت ما - عيرت وسائل إعلامها السيد محمد البرادعي بأن حجم حذائه ضخم! اليوم تسمع في وسائل الإعلام الرسمية تصريحات مماثلة، كالقول بأن المعارضة هي مجموعة من الأشخاص خسرت سباق الرئاسة، مثل حمدين صباحي وعمرو موسى وأبو الفتوح!

هناك عدد من المعضلات في مصر كانت متراكمة منذ زمن، وزادتها الإدارة الحالية بعدد من التصرفات تعقيدا، وليس من العقل اتهام كل من يروم إصلاح الخلل باتهامات تشويهية، فالمشكلات القديمة معروفة، وهي اقتصادية من جهة، واستحواذية من جهة أخرى، أما الجديدة التي أضافتها الإدارة الحالية فربما هي الأكثر تعقيدا. ولعلها تتمثل في أربع قضايا مركزية:

الأولى: علاقة الجماعة بالحزب والدولة! ليست هناك سوابق يمكن المقارنة بها، فهناك ثلاثية تتقاسم السلطة في مصر اليوم، الحزب بتشكيلاته الجديدة وغير المنضبطة، حيث لا يوجد له تاريخ في التعامل الحزبي السياسي الحديث، إنما يعتمد على كوادر الجماعة التي هي بدورها تنصاع لأوامر مكتب الإرشاد قبل الحزب، فقد تعودت على ذلك ولا تعرف غيره، وهو انصياع شبه عسكري، الجماعة لديها معضلات في تناول الديمقراطية، تقبل الطاعة ولا تقبل النقاش، الحزب يحمل كل مؤثرات تسلسل الطاعة التي لا يسأل فيها أحد عن نتيجة عمله، وعندما تفتقد الحرية الداخلية فمن الضروري فقدها في الخارج.

هذه الثنائية، الجماعة والحزب - عاجلا أم آجلا - سوف تنفجر في وجه مكوناتها الحزبية والجماعية، فالتساؤل قائم: هل أولويات الحزب والدولة القيام بتنفيذ فكر وتكتيكات الجماعة؟ أم أن الدولة لها متطلبات مختلفة، كونها ممثلة لقطاعات أوسع! حتى في الدول التي خبرت المركزية الشديدة في التجارب الاشتراكية، كانت المرجعية واحدة، التذبذب لدى الجماعة في العمل السياسي كان واضحا حتى في ترشيح الأشخاص واختيارهم، فقد كان الخيار الأول كمرشح للجماعة للرئاسة المصرية هو السيد خيرت الشاطر، وما لبث أن تحولت – بسبب معوقات قانونية وقتها - إلى السيد محمد مرسي، وحدث أيضا أن السيد عصام العريان كان الرجل الثاني في الهيكل الحزبي، فلما صعد الرئيس (مرسي) إلى كرسي الجمهورية، خسر العريان رئاسة الحزب! دليل آخر على الصراع الخفي بين المجموعة القليلة التي تدير الجماعة، وهو ما يرسل مخاوف كثيرة وحقيقية بين قطاعات واسعة من الشعب المصري، متخوفين من اللجوء في مثل هذه البيئة إلى القمع الحصري.

الثانية: تركيبة ونصوص الدستور الذي ظهر أن فيه عيوبا حقيقة كثيرة، وقد بح صوت أهل الرأي الدستوري في مصر – وهم كثر – قولا أن تلك النصوص أولا فضفاضة، قد تدخل الكثير من الخلل على العمل السياسي المصري في المستقبل، كما أنها تحيل المرجعية في بعض نصوصها إلى آخرين غير منتخبين، وقد دبجت دراسات في هذا الحقل، يجد المتابع فيضا من الحجج العقلية واجبة التفهم لدولة في حجم مصر ومركزيتها، وفي عالم يخطو حثيثا إلى القرن الواحد والعشرين، قرن الحريات وقرن المشاركة وقرن التواصل الضخم بين العالم.

الثالثة: كان لكل الأخطاء والتسرع والتذبذب، أن خرجت إلى سطح العمل السياسي حكومة في أغلبها حكومة مكتبيين لا حكومة سياسيين، والفرق بين هذا وذاك، أن الأولى في الغالب تستمع إلى التعليمات وتنفذها، في وقت أن حكومة السياسيين تدرس المواءمة السياسية، وإن لم ينسجم بعض أعضائها مع بعض القرارات الهامة استخدموا قدرتهم على الاستقالة للفت نظر الجمهور إلى خلل فيما يحدث، نادرا ما يقوم المكتبيون بالاستقالة، لأنهم ينظرون إلى العمل في الطاقم الوزاري كوظيفة وليس رسالة.

الرابعة: وربما أحد أهم المآخذ هو الإخلال بالمكون القضائي، وهو إخلال تم على خلفية أن القضاء مسيس، من هنا تم النص الدستوري على «إصلاح القضاء»، وهو في الحقيقة تدخل في الهيكلية وزجر للقضاء من أجل ترويضه، وهو أخطر ما يمكن أن يحدث لأي مجتمع.

تلك القضايا الأربع التي تعيق توافقا شعبيا مصريا قريبا، وهي التي تجعل المراقب يرى أن الفهم الخاطئ للعمل السياسي يقود إلى نتائج وخيمة تجعل البلد تصدم بالحائط الصلد الذي يتكون في عقول البعض نتيجة تربية حزبية طويلة المدى أساسها الطاعة، لا مكان فيها للمناقشة.

آخر الكلام:

تبين من دراسة حديثة أن اللوم على أحداث الشغب التي تمت في بريطانيا في عام 2011 وقع على التليفون الذكي الـ«بلاك بيري» الذي تمت من خلاله جل الاتصالات بين الأفراد المنظمين للشغب، وذلك دليل مضاف على كيف تتحرك المجتمعات في عصر الاتصالات الذكية.