لماذا تماسك النظام؟

TT

يتمتع النظام السوري بسمعة تقول إنه نظام متماسك ومتكور على ذاته وغير قابل للتفتت أو التفكك، وعنده القدرة على القتال بما يتوفر له من إمكانات حتى نهاية العالم.

هذه السمعة تنقض صحتها الوقائع التالية:

- عدد من انفكوا من الضباط والجنود وعناصر الأمن من مختلف الرتب عن أجهزة السلطة الأمنية والتعليمية، وعن جيشها وقضائها، وبادروا إلى تأسيس أجهزة دولة بديلة كالجيش والقوات المسلحة، التي ربطت نضالها بالنظام الجديد وشرعت تقاتل منذ الأشهر الأولى للحراك المجتمعي السوري، وتعمل على حماية المتظاهرين العزل، بعد أن ألزمت نفسها بمطالبهم في الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة ووحدة الدولة والشعب، وأضافت إليها فكرة جعلت من نضال سوريا الراهنة معركة استقلالها الثاني، أي معركة تحريرها من استعمار داخلي عضوض قتل من السوريين أعدادا أكبر بكثير جدا من تلك التي قتلها منهم الانتداب الفرنسي والإسرائيليون.

- تفاوت الروح القتالية والمعنوية بين قوات النظام، وخوض الفرق والألوية النظامية معاركها بنصف قلب، وتخليها عن سلاحها في حالات كثيرة، وانسحابها في بعض الأحيان من مواقعها بعد قليل من نشوب المعارك ضدها أو مهاجمتها، حتى صارت معنويات ضباطها وجنودها نقطة ضعف لم يعرف النظام كيف يحد من آثارها السلبية بغير فرض رقابة أمنية صارمة على المقاتلين، أكلت كثيرا من قوة أجهزته وأرغمته على تكريس قوى متزايدة العدد لحراسة تماسكه المطلوب. في المقابل، تبدي الوحدات ذات العصبية السلطوية مقاومة واضحة وتمارس عمليات اقتحام وقصف لا تميز بين مدني وعسكري، تستهدف غالبا قرى وبلدات ومدن المواطنين السوريين الآمنين، الذين يعاقبون على عدم ولائهم للنظام وما يساوره من شكوك حول العمل ضده. هؤلاء بالذات يشكلون النواة الصلبة لقوات النظام في الجيش والأمن، التي لم تتفكك إلى الآن، وتعتبر حامل النظام الرئيسي وحاميه المخلص. لكن أنباء كثيرة تؤكد وجود انزياح في معنوياتها ومواقف ضباطها، الذين بدأوا يؤمنون باستحالة الانتصار في المعركة الدائرة منذ قرابة عامين، ويظهرون شكوكا متزايدة في حكمة سياسة تدفع بهم إلى صراع لا أفق له، حتى في حال انتصروا فيه، سيكون من المحال استعادة أوضاع سوريا الطبيعية بعده، سواء بالنسبة إلى السلطة أو إلى الشعب. بقول آخر: إذا ما توفر اليوم برنامج عمل وطني يشارك فيه بعض هؤلاء ويفتح الباب أمام حل آمن يفصل بينهم وبين النظام من دون أن يحملهم تكاليف سقوطه، يمكن لتفكك نواة السلطة الأمنية الصلبة أن يصير أمرا واقعا يلعب دورا مهما في تقريب نهايتها، وإخراج سوريا من المأزق الحالي المرعب.

هل تملك المعارضة شجاعة وحكمة بلورة برنامج عمل وطني جامع لا يقوم على ضمانات لفظية بل على مشاريع عملية واقعية وتشاركية، تحمي الناس بما تمنحه لهم من أدوار تخدم الوطن والمواطن إلى أي جهة انتمى، فيأمن على نفسه ولا يكون بحاجة إلى تطمينات لا تغني ولا تسمن، يعلم أنها لا تلزم أصحابها بعد سقوط النظام، ولا تترك لدى الخائفين من المواطنين غير الإحساس بعدم الأمان، وأن مصيرهم مرتبط بإرادة من يحمل السلاح ضدهم اليوم، ولا يعلمون ما قد يكون قراره حيالهم غدا؟ أعتقد أن تفكك النظام يرتبط بالجواب عن هذا السؤال، الذي يجب أن يجيب عنه بكل وضوح وصراحة مجموع الصف المعارض، بما في ذلك ضباط ومقاتلو الجيش الحر، الذين عليهم دعوة زملائهم السابقين من ضباط الجيش الرسمي إلى الانفكاك عنه، والانضمام إليهم أو إلى تشكيلات مشتركة تضم مجموعات مختلطة تضمن الأمن والسلام في مناطقها، وتعيد المهجرين والمشردين إلى قراهم ومدنهم، وتمنع جميع أنواع التعديات عليهم، وتعمل على استعادة اللحمة الوطنية بين السوريين لأن تمزيقها لا يفيد أحدا غير أسرتين أو ثلاث أسر حاكمة، لم تمثل يوما إرادة أي جهة شعبية أو تكوين مجتمعي أصيل في بلادنا، ومن غير المقبول أن يديمها موقف معارض، يفتقر افتقارا تاما إلى بعد وطني جامع، فهو يدعو إلى الانتقام لدى بعض الأطراف، وإلى الثأر لدى أطراف أخرى، ويرى سوريا بعين الإقصاء والتمييز ولا يراها بعين الوطنية الجامعة وحاجة مكوناتها بعضها إلى بعض، كي تبقى سوريا وطنا واحدا، اليوم وفي المقبلات من الأيام.

لماذا لم تفكر المعارضة بفصائلها المدنية والعسكرية بهذا الحل، الذي ينسجم مع الديمقراطية، مطلبها الرئيسي المزعوم؟ ومتى تتخلص من هذا النقص المدمر في موقفها من مسألة وطنية على هذا القدر من الأهمية والحساسية، يتوقف عليها مصير بلادنا اليوم وغدا، بمعنى الكلمة الحرفي؟ ومتى تضع تصورا برنامجيا واضحا يقوم على استعادة علاقات السوريين الطبيعية، التي كانت نموذجا يضرب به المثل في التآلف والعيش المشترك، لكن النظام نجح في تخريبها بعد حملات تخويف مرعبة نظمها بكل عناية وتصميم، أفاد فيها بوجود تقصير مخزٍ في سياسات المعارضة تجاه مكونات معينة ومهمة جدا من الجماعة الوطنية السورية، جعلها عاجزة إلى اليوم عن الحد من تأثير النظام البالغ السلبية والإيذاء على قطاعات واسعة منها، دفعها إلى الوقوف معه، وأجبر قطاعات منها على القتال تحت قيادته، لمجرد أنها لم ترَ لنفسها مكانا آمنا تذهب إليه، أو خافت ألا تجد مكانا كهذا، في حال انشقت عنه؟ السؤال الآن: هل المعارضة، بما فيها الجيش الحر والكتائب المقاتلة، على استعداد لتقديم مثل هذا المكان لمن يتركون صفوف النظام، والنظر إلى هؤلاء بوصفهم شركاء في الوطنية انتقلوا إلى جانب الشعب، ولا بد من إعطائهم كامل الحق في الدفاع عن أنفسهم وعنه، وتزويدهم بالمستلزمات الضرورية لذلك من سلاح ومال وغذاء، جنبا إلى جنب مع إخوتهم في المقاومة الوطنية السلمية والمسلحة؟

بقيت نقطة أخيرة، وهي أن النظام أدخل في روع كثير من أنصاره أن نظامه يضمن حياتهم وأمنهم، وأن زواله يعني زوالهم الجسدي، وحلول نظام بديل محله لن يكون لهم أي مكان فيه، يختلف عنه اختلاف الليل عن النهار.. هذه النقطة التي تثير قلق الكثيرين خاطئة من ألفها إلى يائها، لأن الديمقراطية سترى في هؤلاء مواطنتهم لا طائفتهم، وستمنحهم حقوقا مساوية لحقوق غيرهم، ودورا يحميه القانون والشعب في تقرير الشأن العام، يعزز حقوقهم ويصونها ولا ينتقص منها، علما أن المجال العام سيبقى مفتوحا أمامهم، وسيكون باستطاعتهم أن يصيروا نوابا ووزراء وموظفين ورجال علم وضباطا وجنودا في جيش بلادهم الوطني... إلخ. بكلام آخر: إن النظام البديل يمثل مصلحة وطنية وإنسانية بالنسبة لهؤلاء، ولن يأخذ منهم شيئا يمتلكونه اليوم غير موالاتهم لآل الأسد ومخلوف ومن لفّ لفهم، علما أن من يستشهدون من السوريين في سبيل الحرية لا يفعلون ذلك كي يحرموهم منها، بل ليجعلوا منهم أيضا مواطنين أحرارا كغيرهم، فهم يستشهدون من أجلهم أيضا، رغم أنهم يقفون اليوم على الجانب الآخر من جبهة القتال، ويخوضون معركة ليست بالقطع والتأكيد معركتهم.

يعتبر تفتيت نواة السلطة الصلبة مصلحة وطنية عليا لا بد أن يشارك جميع السوريين في تحقيقها، بما في ذلك من ينتمون اليوم إلى النظام.. فهل ننتظر أن تتفتت من تلقاء نفسها خلال فترة قد تكون طويلة، أم نقوم بما يتطلبه الواجب الوطني لفعل ذلك، فننقذ حيوات آلاف السوريين، بما في ذلك حيوات كثيرين من مواطنينا الذين يقاتلون في صفوف جيش وأمن السلطة؟